أخبار عاجلة

الدكتور عيد بلبع يلقي كلمة مصر في مؤتمر الاتحاد الإسلامي بتركيا

ليست وحدة الأمة المؤمنة أمرا مستحدثا ولكنه وحدة على مر العصور والأنبياء ، فقد عقب الله تعالى على ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوله : ” إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ” (الأنبياء 92) ، فبين الله تعالى أن أهل الإيمان المجتمعين على التوحيد على مر العصور والأزمان أمةٌ واحدة ، وأن المشركين قد خالفوا الكل ، ويأتي فرض الاتحاد في الآية من نصب كلمة أمة على الحالية أي هذه أمتكم ما دامت أمة واحدة واجتمعتم على التوحيد فإذا تفرقتم وخالفتم فليس من خالف الحق من جملة أهل الدين الحق.
فالذين تقطعوا أمرهم بينهم هم الذين تفرقوا في الدين واختلفوا فيه ، وهكذا جاء الهدي القرآني أيضا في سورة المؤمنون : ” يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ” (المؤمنون 54)
فدين الأنبياء جميعا دين واحد وملة واحدة, وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له, والذين اختلفوا وتقطعوا أمرهم بينهم زبراً أي جعلوا دينهم مللا وأديانا بعد ما أمروا بالاجتماع ، فكل منهم معجب برأيه وضلالته وهذا غاية الضلال ، وهؤلاء توعدهم الله تعالى أن يُتركوا في غيهم وضلالهم إلى حين حَينهم وهلاكهم .
وعلينا أن نتأمل الاختلاف بين المسالك حال كونه مؤديا إلى التحزب ومنتجا لانشطار الأمة، ما حكمه ؟ وإلى حدٍ يُعد تفرقا ملليا ، وعلى فقهاء الأمة أن يُسلموا أنفسهم للبحث والتدبر في هذه القضية التأسيسية الجوهرية ، فلا ينشغلوا بالاختلاف في الفرعيات عن تدبر هذه القضية الكبرى التي هي قوام الأمة ، وعلى الفقهاء الفرقيين أن يُسلموا أنفسهم وقلوبهم وعقولهم وضمائرهم لله تعالى بالنظر فيما يُقيم وحدة المسلمين ويحقق الاتحاد الإسلامي ويُطهر القومية الإسلامية من شوائب التفرق والتحزب والاختلاف .
هذه هي القومية الإسلامية العابرة للقرون والعصور ، إنها قومية تجمع بين المسلمين الموحدين لله تعالى على نهج إيماني واحد على مراحل الشرائع وتعاقب رسل رب العالمين .
وإذا كانت هذه هي القومية الإسلامية الكبرى التي تحقق الشخصية المعنوية الواحدة ، فإن المقام يُشعر المخلصين من أبناء الأمة بشيء من الخجل غير قليل ، إذ نجد القدر الأكبر من أبناء أمتنا التي هي امتداد لأمة الموحدين على مر العصور لا تستشعر خطر التفرق والتملل والتشرذم والتحزب بين المسالك المختلفة .
يظهر لنا تصور رسائل النور للاتحاد الإسلامي في مخاطبة طلاب رسائل النور وخدام القرآن الكريم بخطاب نوري روحي : ” نحن وإياكم جميعًا أعضاءُ شخصيةٍ معنويةٍ جديرةٍ بأن يطلق عليها : الإنسان الكامل ، وبمنزلة تروس مصنع يُنتج السعادة الأبدية في حياة خالدة ، وخدامٌ عاملون في سفينة ربانية تمخُر بالأمة المحمدية إلى دار السلام التي هي شاطئ السلامة، إذن فلا شك أننا محتاجون بل مضطرون إلى التساند والاتحاد الحقيقيين مع الفوز بسر الإخلاص الذي يوفر قوة معنوية ؛ فإن سر هذا السر هو أن كل فرد يمكنه أن يرى بعيون سائر إخوانه ، ويسمعَ بآذانهم في اتفاق حقيقي خالص ، وكأن كلَّ فرد من عشرة أشخاص متحدين اتحادا حقيقيا له من القوة المعنوية والقيمة ما يكون ؛ وكأنه ينظر بعشرين عينًا ، ويفكر بعشرة عقول ، ويسمع بعشرين أذنًا ويعمل بعشرين يدًا .”
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مثلُ المؤمنين فى توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم مثلُ الجسدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحُمَّى .”
تمثلت رسائل النور ضرورة الاتحاد الإسلامي في الهدي القرآني بوصفه فرضا في الالتفات إلى أنه لا عذر لمسلم في التكاسل عن إقامته ، والحق أن عين البصيرة النورية كانت ثاقبة النظر العابر إلى عمق المستقبل الذي هو حاضرُنا الآن ، وكم كان استشرافها المستقبل يقظا واعيا فجاء الحديث في الخطبة الشامية مستشعرا الاتحاد الإسلامي مشعرا به في آن واحد ، موجها إلى المسلمين ” في الجامع الأموي والمسلمين في جامع العالم الإسلامي بعد أربعين أو خمسين سنة، رافضا أي عذر عن التكاسل وترك العمل والتهاون واللامبالاة وعدم التشجع والتحمس ” للاتحاد الإسلامي والقومية الإسلامية الحقيقية ، فإن هذا ضررٌ جسيم وظلم عظيم .” (الخطبة الشامية)
كثيرة هي الدوائر التي تتربص بالمسلمين وكثير هم الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر مستهدفين تفرقهم وضعفهم ، هذه حقيقة التفت إليها الأستاذ سعيد النورسي فانبرى ينبه إليها سائر الموحدين : ” فهل يليق بأهل الإيمان ـ بأي وجه من الوجوه ـ الانحيازُ إلى غرضٍ ، والعنادُ في عداء ، اللذان هما بمنزلة تسهيل هجوم الأعداء عليهم وفتحِ الأبواب لدخولهم إلى حرم الإسلام ، في حين أنهم مضطرّون لأن يتخذوا وضع الدفاع تجاههم متكاتفين متساندين !
وإن دوائر الأعداء ابتداء من أهل الضلالة والإلحاد وانتهاء إلى عالم الكفر وأهوال الدنيا ومصائبها ، هي دوائر متداخلة اتخذت أوضاعا مضرة لكم ، ودوائر بعضها خلف بعض تنظر إليكم بطمع وغضب ، فسلاحك القوي وخندقك الأمين وقلعتك الحصينة تجاه كل أولئك الأعداء هو الأخوة الإسلامية ، فاعلم ـ أيها المسلم ـ كم أن زعزعة هذه القلعة الإسلامية بعداواتٍ صغيرةٍ ، وحججٍ واهيةٍ منافٍ للضمير ومخالفٍ للمصلحة الإسلامية ، فأفق !
فيا أهل الإيمان : إن كنتم تريدون ألا تدخلوا تحت الأسر في ذُلٍّ فثُوبوا إلى رشدكم ، وادخلوا القلعة الحصينة المقدسة ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ (الحجرات 10) تجاه الظالمين الذين يستغلون خلافاتكم وتحصنوا بها ، وإلا فلن تستطيعوا أن تحافظوا على حياتكم ، ولن تستطيعوا أن تدافعوا عن حقوقكم ، فمن المعلوم أنه إذا تناحر بطلان ؛ فإن طفلا صغيرا يستطيع أن يضربهما ، وإذا كان هنالك جبلان متوازنان على ميزان ؛ فحصاة صغيرة تستطيع أن تخل بموازنتهما وتلعب بهما ، أي ترفع أحدَهما إلى الأعلى ، وتنزل بالآخر إلى الأسفل .
ويا أهل الإيمان : إنه لتضمحل قوتكم من جراء حرصكم وطمعكم وانحيازكم في حقد وعداء ، فتنسحقون بقوة قليلة ، فإن كانت لكم علاقة بحياتكم الاجتماعية فاتخذوا الدستور السامي : ” ” المؤمنُ للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه ” دستورا لحياتكم، لتنجوا من التعاسة والضنك الدنيوي والشقاء الأخروي .”
ولنتمثل جميعا الآن هدي قرآننا العظيم إذ قال ربنا عز وجل آمرا بالجماعة ومحذرا من التفرق : ” وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ” (آل عمران103) ، وقال محذرا : “وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ” (آل عمران105) ، وقال آمرا ومنبها ومحذرا : ” وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ” (الأنعام153) ، وقال مبرئا نبيه صلى الله عليه وسلم : ” إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ” (الأنعام 159) ، وقال وجل محذرا : ” وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ” (الروم 33 ) ، وقال : ” شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ” (الشورى 13) ، حتى لا نكون من أشباه هؤلاء الذين هم ” بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ” (الحشر 14) ، أبعد كل هذه النداءات من رب العالمين تفترق بعضُ المسالك انتصارا لرأي أو لرؤية أو لتأويل هو في النهاية جهد بشري .
لقد ترسخت أسس التواصل بين المسلمين التي هي دعائم الاتحاد الإسلامي والطريق إلى تحقق والقومية الإسلامية وبناء الشخصية الاٌيمانية المعنوية الأخلاق في هذا الهدي
يجب أن يستقر في وجدان كل مسلم هذا الهدي الرباني ” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ” (آل عمران 159) ، تلك هي أخلاق نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم : اللين والرفق ، والنأي بالنفس عن الفظاظة وغلظة القلب ، والعفو والاستغفار وهما ثمرتان قلبيتان من ثمرات التسامح .
وبجملة هذه الأخلاق جاء الفيض النوري : ” وإن كنت تبغي القومية الإسلامية وحجر الاتحاد الإسلامي ونقشه، فانظر، فالخجلُ الشهمُ الناشئُ عن الحياء والنخوة ، والابتسام البريء المتولد عن التوقير والرحمة ، والحلاوة الروحية النابعة من الفصاحة والملاحة ، والجذل السماوي الناشئ عن العشق الفَتِيّ والشوق الربيعي ، واللذة الملكوتية المتولدة من الحزن الغروبي والفرح السَّحري ، والزينة المقدسة النابعة من الحسن المجرد والجمال المشرق ، كل منها يمتزج بعضها ببعض فيخرج منه اللون النوراني .”
إن مفتاح سعادة المسلمين في الحياة الاجتماعية الإسلامية هو المشورة الشرعية ، فالآية الكريمة ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ﴾ (الشورى:38) تأمر بالشورى من الأساس ، فإن الشورى الحقة تنتج الإخلاص والتساند ، ويلفت الإستاذ إلى نمط من الشورى دقيق المسلك عميق الرؤية إذ يلفت إلى أنها تواصلٌ للأفكار عبر الأجيال ، إنه نمط عابر للزمان من الشورى فيا أطلق عليه : ” مشورة العصور والأزمان بعضها مع بعضٍ بواسطة التاريخ في نوع البشر باسم تلاحق الأفكار ” ، ومن ثم يؤكد أنها سبب رقي جميع البشر وأساس علومه ؛ وكما أن الأفراد يتشاورون ، فعلى الطوائف أن تقوم بهذه الشورى ، فالذي يحطم قيود الاستبدادات المتنوعة المختلفة التي وضعت في أقدام ملايين المسلمين إنما هو الحرية الشرعية التي تتولد عن الشورى الشرعية ، إن الحرية الشرعية النابعة من الإيمان تأمر بأساسين اثنين : ” ألا يُذِلّ المرء ولا يتذلل ” ، فالحرية الشرعية عطية الرحمن بتجلي اسمِهِ الرحمن والرحيم ، وهي خاصية من خصائص الإيمان ، فليحي الصدق ، ولا عاش اليأس ، فلتدم المحبة والتقوى والشورى .
ثم تأتي المعرفة أساسا في دعائم الاتحاد الإسلامي ، يقول الأستاذ سعيد النورسي : ” ولكن الاتحاد لا يمكن أن يتحقق بالجهل؛ إذ الاتحاد امتزاج الأفكار ، وامتزاج الأفكار إنما يتحقق بشعاعات كهرباء أفكار المعرفة “
لقد نبهنا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى عوائق الاتحاد الفظاظة والغلظة ، التباغض والتحاسد ، إعجاب كل ذي رأي برأيه ، سوء الظن ، إيذاء المسلم أو ترويعه ، سباب المسلم أو قتاله ، المبالغة في تزكية النفس ، المبالغة في اتهام الآخرين من المسلمين ، ولما كان التفرق من أخطر العوامل التي تؤدي إلى انتشار هذه الأمراض وجب علينا أن نعرف كيف تتجنب المسالك المتشعبة النتائج الوخيمة للتفرق ؟
ـ العمل الإيجابي ، أي أن يعمل المسلم بموجب محبته لمسلكه ، وألاّ تتدخل في فكره وعمله عداوةُ المسالك الأخرى أوالانتقاصُ من شأنها .
ـ أن يتفق مع الذين هم في دائرة الإسلام مفكرًا في أن هناك كثيرًا من روابط الوحدة التي هي مدار محبة وأخوة واتفاق مهما كان نوع مشربهم.
ـ اتخاذ دستور الإنصاف مرشدا ونبراسا .
ـ الاتفاق مع أهل الحق سبب من أسباب التوفيق الإلهي والعزة الإسلامية.
ـ الحفاظ على الحق والحقيقة تجاه الشخص المعنوي الخطير لأهل الضلالة بإخراج شخص معنوي قوي بواسطة الاتفاق في جانب أهل الحق .
ولإنقاذ الحق من صولة الباطل يجب أن يترك المسلم : نفسَه الأمارةَ ، وأنانيتَه ، وما يسميه خطأً العزة والكرامة ، فهو في الحقيقة (الكبروالغرور) ، وحسياته التافهة الخسيسة التي تسوقه إلى الجدال والمزاحمة والمنافسة .
الأحباب جميعا في قوميتنا الإسلامية : إنه لا شيء يهدد الصحوات الإسلامية في جميع أقطار العالم الإسلامي قدر التفرق والتحزب ، وإذا أغفلنا هذه الحقيقة فإن حُكما واحدا ينتظرنا جميعا هو أننا أسهمنا في تدعيم التفرق والاختلاف ، وإذا شئنا تخفيفا لهذا الحكم فلن يكون إلا أننا عجزنا عن أن نحقق الاتحاد والقومية الإسلامية ، فالجماعة المسلمة هي المسلمون ، وإن الفرض الذي يفرضة علينا دينُنا وقرآنُنا العظيم أن نعمل وهدفنا الأول الذي يسبق كل هدف ويتقدم كل غاية هو الاتحاد الإسلامي وتحقيقُ القومية الإسلامية وتدعيمُ الشخصية المعنوية للمسلمين جميعا ، إن المسلمين جماعة واحدة والمسالك المتعددة ليست جماعة ، ليس السؤال المقدم هو : كيف نعتصم بالدين ؟ أو كيف نقيم الدين ؟ ، ولكنه : كيف نكون جميعا في إقامة الدين ، كيف نكون جميعا في الاعتصام بحبل الله تعالى ؟
فرق هائل بين أن يكون منطلق المسلم : ما الذي يمكن أن أقبله من رؤى المسالك الأخرى ؟ وأن يكون منطلقه : كيف يمكن أن أقنع المسالك الأخرى برؤيتي وآرائي ؟ والأدهى والأمر أن يكون منطلق الواحد من هذه المسالك كيف يمكن أن أحقق السلطة التي أفرض بها رأيي ورؤيتي على سائر رؤى وآراء المسالك الأخرى ؟
فكيف إذا تحول الأمر بهذه المسالك إلى عنصرية ، لا نقول أشبه بالعنصرية القبلية ، ولكن نقول ربما أشد وقعاً وأعنف إيلاماً من العنصرية القبلية ، إذا تحول الأمر بهذه المسالك الخاصة إلى عنصرية قائمة على الاتهام في الدين ، ومن ثم فوضى الفتوى والأحكام .
وكم كان الستاذ سعيد النورسي واعيا يقظا ، وكم كان ملهما إذ أطلق عليها مسالك ولم يُطلق عليها جماعات ، فالمسلمون جماعة واحدة ومسالك شتى ، والخوف كل الخوف أن تكون فرقا شتى .
ولعله من أخطر ما يهدد قيام الاتحاد الإسلامي ويحول دون تحقق القومية الإسلامية هو ارتكان كل مسلك إلى أن يُطلق على نفسه أنه جماعة من المسلمين ، والخوف الأكبر والخطر الأعظم أن يتسلل التفرق إلى بعض النفوس في تلك المسالك فيُظهر خلاف ما يُبطن ، فيُعلن أنه جماعة من المسلمين ويُبطن أنه جماعة المسلمين
وإسلامنا يعني مطلقَ تسليمنا لله تعالى ، ومطلقَ تسليمنا لما قضى به الله تعالى ، وإسلامنا يعني أن الواحد منا أسلم روحه وعقله وقلبه ومشاعره وإرادته لله تعالى ، فليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، وقد قضى ، وقضاء الله تعالى وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم هو في الأوامر والنواهي التي وردت في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد حدد حبيبنا محمد محمد صلى الله عليه وسلم لنا كيف نتلقى أمره وكيف نتلقى نهيه .
نسجد لله شكرا أن جاء في هديه الكريم في القرآن العظيم حكمُ ما بيننا : ” قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ” (فصلت 44) ، بارك الله لنا في القرآن العظيم وفي هدي رسوله الأمين ، وبارك الله في جمعكم الكريم وجزى الله القائمين عليه خير الجزاء وأوفره ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *