أخبار عاجلة

د.مجدي العفيفي يكتب… ولكن.. المرارة لاتزال في قلبي!

أجرى الطبيب لي عملية في القلب.. وما أدراك ما القلب.. وعاود الدم تدفقه في الشرايين.. وعادت للأوردة حريتها في الحركة.. بعد هزيمة طغيان الجلطة.. فشجرة الحرية لا تروى إلا بدماء الطغاة..! وأكد الجراح الماهر أن القلب استعاد عافيته.. وأن «كلي» عاد منظومة بشرية وإنسانية.. وأن كل الأجهزة والبرامج ينتظمها قلب أقوى من «ريتشارد قلب الأسد»(!!!).
وطبقا لأوامر الطب والعلم: لا تتوتر.. لا تنفعل..لا تغضب.. لا تفكر.. لا تكتب.. ابتعد عن وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة.. ابعد عن المكتب والقلم والأوراق والكمبيوتر.. انبذ غواية الصورة ووشاية الميديا.. مارس الرياضة.. السباحة.. المشي.. و.. و… عشرات المحرمات والممنوعات والمحظورات.. ابتعد عنها.. اجتنبها.. لا تقربها .. وتلك حدود القلب فلا تعتدوها.. ألف لا ولا تفعل.
تمر أيام وليالي فترة النقاهة.. أتعاطى الأدوية.. وأمتثل للتعليمات امتثالا.. لكن على طريقة “أتمسكن حتى أتمكن”..!. وأفقت بعد طول امتثال طبي.. وأنا أمني النفس بنظام جديد .. وأسلوب آخر .. يتناغم مع هذه المرحلة من العمر.. والسير وصولا إلى المصير.. مع يقيني غير المراوغ بأن العمر لا يقاس بعدد الشهور والسنين، إنما يقاس بغزارة الشعور من عدمه.. وأفقت.. وأحيانًا نتمنى ليت أنَّـى لا نفيق.
ما للمرارة لاتزال في قلبي يا طبيب القلب.. !. كيف يتعافى القلب كما قلت يا دكتور؟ إذ كيف يكون القلب سليمًا ومرايا المجتمع غير متجاورة.. وأبعاده غير متحاورة.. وأطيافه متنافرة.. وقانون «التجاذب للتنافر والتنافر للتجاذب» لا يعمل فينا كما ينبغي أن يكون.
كيف يا سيدي الطبيب ولايزال التخوين عنوانًا بالبنط العريض لصحيفة وجودنا اليومي وشاشة حراكنا الوهمي؟ كيف ولايزال التصنيف المذهبي الضيق يطبق على صدورنا.. ويطمس على عيوننا.. وقد ران على قلوبنا، فلا نفقه ما يدور حولنا وما يحدث فينا.. هذا ليبرالي، وذاك سلفي، وشيوعي.. ماركسي.. إخواني.. ناصري.. جهادي.. متخلف.. وطني.. لا وطني.. متدين.. لا ديني.. إرهابي.. وسطي.. ضد.. ومع ..و..و.. إلى آخر هذه القوائم الملعونة التي تفتت المجتمع وتشرذمه..؟
كيف يرتاح القلب يا طبيب القلب.. والدم لا يتوقف.. وكل الدم حرام.. إلا من اعتدى وتعدى الحدود.. وأرهب الآخرين.. وأرعب الآمنين.. فالكل له بالمرصاد.. أو يفترض ذلك..؟
كيف..؟ ولايزال الحوار القومي أحاديًا.. من طرف واحد، من السيد المهيمن والمسيطر، إن هو إلا ثرثرة ينبغي أن يعتذروا عنها.. هل نسيت يا طبيبي أننا نعيش في منطقة (الشر… الأوسط) نعم الشر… الأوسط بدون (القاف) بالتأكيد ليس من قبيل المصادفة أن يظل الشرق الأوسط مصدر انتباه العالم الأشرار(!!) مع أنه ملتقى الحضارات الإنسانية، ومهبط الديانات السماوية ومنبع الروحانيات.. وبرغم أنه مشعل النور، إلا أن النار لا تفارق ثناياه ولا تنطفئ في حناياه… ومع أنه مصدر الطاقة للعالم إلا أن ما يشهده يفوق الطاقة والاحتمال، وما يعانيه من أشواق يفوق عذوبته التي يتجلى بها برغم عذاباته.
ماذا يجري لهذه المنطقة؟ كلما هدأت نار اشتعل جحيم؟ كل يوم هي في شأن بل كل ساعة.. ترقب.. انتظار ما يجيء وما لا يجيء.. صفقة القرن القادمة بكل لعناتها.. وتداعياتها المشؤومة.. الشيء الذي ظل يتكور في هذه المنطقة.. أوشك على التفجير والانفجار.. أحداث متسارعة.. مفاجآت هنا.. مفارقات هناك.. تحولات مريبة.. تحليلات غامضة.. تصريحات مخادعة.. محادثات لا يخرج منها إلا النذر اليسير من الفتات لتنعق بها وسائل الإعلام وهي تثرثر ليل نهار فتخدر وتسكن.
كيف وخطابنا العام لايزال مشحونًا بالكراهية، يحض على الكراهية والبغضاء، وبينه وبين السماحة والتسامح سنوات ضوئية..! كيف ولغتنا السياسية من «الخليج الثائر إلى المحيط الهادر» (!!!) لاتزال بالية كأحذيتنا القديمة، ولهجتنا كالحة عنيفة فظة غنية بالحقد.. وكل تغير في اللغة لابد أن يؤدي إلى تغير في الفكر، وكل تغير في الفكر يؤدي حتما إلى تغير في اللغة.
كيف والفتنة ليست نائمة.. بل قائمة وعلى أشدها.. ونار الإعلام المرئي تزيدها اشتعالا واشتغالا.. وما هو بإعلام إنما هو “أضغاث إعلام” ومثل هذا الإعلام هو الذراع اليمنى للفوضى، إنها وسائل إعلام تسيء إلينا نحن رجال الصحافة والكلمة المكتوبة، والصحافة ستظل هي سيدة وسائل الإعلام مهما كانت غواية الصورة!!.
يا سيدي الطبيب يا جراح القلوب.. الألم عضال.. المرض ليس في القلب بقدر ما هو في « وظيفة القلب» و«العقل هو وظيفة القلب» إنه الفكر والتفكر يا سيدي، وما أدراك ما الفكر.. أنا أفكر إذن أنا موجود.. أنا لا أفكر إذن أنا في عداد الموتى.. وأتذكر ما قاله شاعرنا العظم المتنبي لطبيبه وهو يعالجه من الحمي:
يَقُولُ ليَ الطّبيبُ أكَلْتَ شَيئاً
وَداؤكَ في شَرَابِكَ وَالطّعـامِ
وَمَا في طِبّــــهِ أنّي جَـــــــوَادٌ
أضَرَّ بجِسْمِهِ طُولُ الجَمَــامِ
كيف ولاتزال الثنائيات الكونية عندنا متضادة، ولا تريد أن تكون متقابلة طبقًا لقانونها.. فإذا هي تفترسنا وتمضغنا وتلفظنا، ونحن في غينا سادرون.
تريدني أيها الطبيب ألا أمسك القلم، ولا ألمس «كيبورد الكومبيوتر» ولا أفكر.. ولا أسهر لأقرأ الليل وأكتبه..!! هل أنا رجل خشبي؟ وأنا كائن ليلي من سكان مملكة الليل.. والليل صديق وطويل وعذاب وعذوبة.
هل يرضيك أن أمكث في جزيرة معزولة.. وكل شيء فينا مخترق..؟! كل شيء حولنا يخترق حتى لو يحرق ويحترق.. ويساعد على إشعال الفتن الإعلامية والبغضاء الاجتماعية.. كل شيء حولنا يباع ويشترى.. تاريخنا يسرقه بعضنا من بعضنا.. الجغرافيا تحولت إلى لعبة قمار.. وهي التي لا تعرف إلا الثبات.. كلنا متفرجون نمارس فنون الفرجة.. ولا نملك إلا إياها.. كلنا «كومبارس».
وبرغم كل ذلك.. وأكثر من ذلك.. هم ليسوا عباقرة، إنما نحن الأقزام…!!
بعد كل هذا هل أنت متأكد يا طبيب القلب أن أمور القلب..مستقرة؟!
أشك.. والسؤال نصف الجواب..!


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *