د. مصطفى شاهين يكتب.. فَهمُ آية ، بفهم كلمة

من أفضل التعريفات لكلمة ( الفهم ) في رأيي أنه : ( حسن إدراك وشمولية إحاطة العقل ، لأمر ما ، بناء على تصور صحيح ، ثم التعبير عن الإدراك والإحاطة بقول سديد مقنع للغير ) . وهذا الأمر لا يحدث من كل العقول بدرجة واحدة . بل تتفاوت العقول في ذلك كتفاوت وجود البشر سواء بسواء . ومن أوتي الفهم الصحيح ، فقد أوتي خيرا كثيرا . ولعله المعنى من قول الله ( يؤت الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) صدق الله العظيم 
     وأول ما ( يجب ) أن يُفهم – فهما سليما مقنعا – في حياة المسلم هو القرآن . أقول يجب ، وأقصد ( وجوب علم ) ، وقد لا يكون وجوب إيمان بالمطلق . نعم لم نعتد نحن المعاصرون على القول بهذا النوع من الوجوب فيما يخص فهم القرآن ، بل قد يندهش البعض من القول : إنه يجب على ( العامي ) في ذلك مثل ما يجب على ( المتعلم ) . فالقرآن لم يصل إلينا في عصرنا الحاضر لكي يخاطب فقط أصحاب الشهادات والمتعلمين في المدارس والجامعات . بل إن خطابه الآن مازال بمثل ما كان خطابه للناس زمان . وعلى المقصّر في الوجوب نحوه أن يجبر كسر تقصيره بالسعي لفهمه وتحصيل مقاصد خطابه ، لا أن يقول إنني معذور بجهلي . فإن كمال الإيمان ، كمال علم . ونقص الإيمان زيادة جهل . وليس ( أمتع ) في حياة المؤمن من فهم عماد إيمانه وتدينه ، وهو القرآن 
     ومن فلسفة ( فهم ) القرآن ، أنه متنوع متجدد في كل عصر ، لا يخلق من كثرة الرد ، فكلما نظر فيه مسلمون – في عصرهم – وجدوا فيه من المعاني مالم  ينكشف لمن قبلهم ، دون أن يكون فيه انحراف أو تضاد أو اختلاف . وإن فهمه يحتاج إلى تدريب ومحاولات وصبر إيماني جميل . وكما أن ( الحلم بالتحلّم ) ، والعلم بالتعلم ، والخلق بالتخلق . فكذلك إنما ( الفهم بالتفهّم ) . وإذا كان ذلك في مجالات الحياة مهما ، فهو في القرآن أهم وأجلّ              
      ومن فلسفة ( فهم ) القرآن أيضا ، أنه قد ( ينبني فهم آية منه ، على فهم كلمة منها ) ، بمعنى أن بعض الآيات القرآنية قد يكون فيها كلمة تعد ( روح الآية ) أو هي كل المعنى الذي عليه أساس المبنى . فإذا ما فهمت هذه الكلمة فهما صحيحا ، فإن مجمل الآية يفهم تبعا لها . وسوف نضرب في هذا المقال مثالين لهذا النوع من الفهم        
      المثال الأول : آية ﴿ مِن شَرِّ مَا خَلَق ﴾ سورة الفلق آية 2 . والكلمة هي لفظة ( ما ) . وفهم هذه الكلمة في كتب التفاسير لا يخرج عن ثلاثة معان : 
المعنى الأول : وهو – الأكثر وجودا في كتب التفاسير بصفة عامة وفي كتب التنظير التفسيري السني بصفة خاصة – يفهم لفظة ( ما ) على أنها اسم موصول بمعنى الذي ، فيكون المعنى : قل أعوذ برب الفلق من كل الشر الذي خلق ، في كل المخلوقات وأشرها إبليس وذريته . وهذا المعنى يلزم عنه نسبة خلق الشر لله ، إما بشكل مباشر بحسب ظاهر قوله من شر ما خلق ، أو بشكل غير مباشر بوجود الشر في الأشياء بحكم طبيعتها التي خلقها الله عليها
ومن أمثلة التفاسير التي ذكرت هذا المعنى : تفسير (الطبري) ، حيث جاء فيه : (( وقال جلّ ثناؤه : ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ لأنه أمر نبيه أن يستعيذ من شرّ كل شيء ، إذ كان كلّ ما سواه ، فهو ما خَلَق )) . وفي تفسير (ابن كثير) جاء فيه : (( وَقَوْلُهُ : ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ أَيْ : مِنْ شَرِّ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: جَهَنَّمُ وَإِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ مِمَّا خَلَق )) . وتجد مثل ذلك في تفاسير أخرى كثيرة
       المعنى الثاني : وهو الذي يفهم لفظة ما ، باعتبارها ما ( النافية ) ويقرأ كلمة شر على التنوين بالكسر فتكون ( شر ٍ) ، ويكون المعنى : قل أعوذ برب الفلق من (شرٍ ما خلق) ، أي من الشر الذي لم يخلقه الله ؛ لأن الله لا يخلق الشر أصلا . وهذا الاتجاه في المعنى يقول به المعتزلة والقدرية . وقد يبدو هذا المعنى مقنعا للعقل ، لكن مفسري أهل السنة يرفضونه ، بل يقدحون في القائلين به ، فقد ورد في تفسير فتح البيان لصديق حسن خان قوله ((وقد حرّف بعض المتعصبين هذه الآية مدافعة عن مذهبه ، وتقويماً لباطله ، فقرأ بتنوين شرٍ على أن ( ما ) نافية ، والمعنى : من شرٍ لم يخلقه ، ومنهم عمرو بن عبيد وعمرو بن فائد )) . وتجد مثل هذا الكلام في فتح القدير للشوكاني ، وروح المعاني للألوسي ، وغيرها من كتب المفسرين
      المعنى الثالث : وهو فهم يترتب على قراءة أبي حنيفة للآية ، فقد ورد في تفسير (مدارك التنزيل) للنسفي : (( قَرَأ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللهُ : مِن شَرٍّ ، بِالتَنْوِينِ ، وما ، عَلى هَذا ، مَعَ الفِعْلِ، بِتَأْوِيلِ المَصْدَرِ ، في مَوْضِعِ الجَرِّ، بَدَلٌ مِن شَرٍّ ، أيْ : شَرٍّ، خَلْقِهِ ، أيْ : مِن خَلْقٍ شَرٍّ ، أوْ زائِدَةٌ )) . وذكر صديق حسن خان صاحب تفسير فتح البيان أن هذا المعنى : (( فيه بُعد وضعف )) . يعني أنه لا يُقنع العقل
      المثال الثاني : آية ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾  سورة الإسراء : آية ١٦ . والكلمة هي ( أمرنا ) : وهي ليست على معنى أن الله أمر المترفين بالفسق ، ففسقوا ؛ لأن الله لا يأمر بالفسق والفساد . ولكن على معنى أن الله أمرهم ( بالطاعة ) ، فخالفوا أمره بالمعصية والفسق
      وهناك معنى آخر قد يكون مقنعا أكثر بحسب سياق الواقع للمأمورين ، وهو معنى ( الإمارة ) ، بجعلهم أمراء ، ومن ثم فسقوا بحسب طبيعتهم . يقول ابن جرير الطبري : وقرأ ذلك أبو عثمان النهدي ﴿أمَّرْنا﴾ بتشديد الميم ، بمعنى الإمارة . وعلى هذا التأويل جماعة من أهل التأويل منهم : 1- عن ابن عباس قوله : ﴿أمَّرْنا مُترَفِيها﴾ يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم بالعذاب ، وهو قوله ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾ 2 – عن الربيع بن أنس أنه قرأها ﴿أمَّرْنا﴾ وقال : سلَّطنا 3 – عــن أبي العالية قال : ﴿أمَّرْنا﴾ مثقلة : جعلنا عليها مترفيها أي مستكبريها 4- عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى : ﴿أمَّرْنا مُتْرَفِيها﴾ قال : بعثنا 
     وأخيرا ، إذا طرحنا السؤال المهم : ما هو المعنى الأقرب إلى عقلك ( الإيماني التديتي ) من بين هذه المعاني – في المثالين – ، فكيف ستكون ( إجابتك أنت ) وليس إجابة غيرك عنك ؟! أم أن لديك معنى آخر فتح الله عليك به – أو توصلت إليه بجهد عقلك – في هذا العصر ؟! 


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *