رسائل إسرائيل الخفية بين عُمان وعمَّان

تفجرت فى الأسبوعين الماضيين، وبالتحديد يوم الأحد (21/10/2018) أزمة، قد تبدو طارئة أو مفاجئة، وربما تتحول إلى أزمة ممتدة تهدد عملية السلام الرسمية بين الأردن والكيان الصهيونى تتعلق بالقرار الذى اتخذه العاهل الأردنى الملك عبدالله الثانى بعدم التمديد لإسرائيل بممارسة «حق الانتفاع» على منطقتى الباقورة والغمر الحدوديتين، فقد أقرت هذه الاتفاقية بمنح إسرائيل ممارسة حق الانتفاع على هاتين المنطقتين لمدة 25 عاماً حفاظاً على حقوق الملاك الإسرائيليين الذين لديهم حقوق ملكية مسبقة وفق نظام خاص حددته الاتفاقية حيث نصت على أن يبقى «حق الانتفاع» هذا سارياً لمدة 25 عاماً تجدد تلقائياً لفترات مماثلة ما لم يخطر أحد الطرفين الطرف الآخر بنيته إنهاء العمل بالملحق قبل سنة من انتهائه، وفى هذه الحالة «يدخل الطرفان فى مشاورات حيالها، بناء على طلب أى منهما»، وهذا يعنى أنه إذا أراد الأردن إنهاء هذا الوضع فعليه إبلاغ إسرائيل بهذا فى موعد أقصاه يوم 25 أكتوبر 2018، وهذا ما فعله الأردن استجابة لمطالب وضغوط شعبية واسعة مارستها النقابات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدنى الأردنية تطالب باسترداد الأراضى الأردنية «شبه المحتلة» من إسرائيل. 
القرار الأردنى فجر موجة غضب عارمة داخل الكيان، فإذا كانت المعارضة اليسارية الإسرائيلية قد اتهمت رئيس الحكومة بنيامين نيتانياهو بإساءة إدارة العلاقة مع الأردن خلال الأعوام القليلة الماضية، وأنه وحكومته مارسا سياسة تجرؤ مسيئة للكبرياء الأردنية، سواء بخصوص حادث السفارة الأردنية وإطلاق نار من أحد حراس السفارة أدى إلى قتل مواطن أردنى واستقباله بحفاوة مبالغة عندما نجح فى إعادته إلى إسرائيل، أو بخصوص تجديد طرح مقترح «الكونفيدرالية الأردنية- الفلسطينية» كبديل لـ «حل الدولتين» دون أى استشارة مع الأردنيين، فإن اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية تجاوز كل حدود الأدب واللياقة مع الأردن على نحو ما جاء على لسان وزير الزراعة الإسرائيلى أورى أرئيل الذى هدد بقطع المياه عن العاصمة الأردنية عمَّان، وقال فى مقابلة مع القناة التليفزيونية الأولى الإسرائيلية إن حكومته ستقلص المياه التى تزود بها عمَّان إذا ألغى الملحق الخاص بـ «تسوفر ونهاريم» ويقصد الباقورة والغمر، وقال إن «الأردن بحاجة إلى إسرائيل أكثر من حاجة إسرائيل للأردن»، كما طالب رئيس حكومته بإقناع الملك الأردنى بالعدول عن قراره، أى رفض طلب الأردن استرداد القطعتين. كان من المفترض فى مثل هذه الظروف الحرجة أن يبادر بنيامين نيتانياهو بالسفر إلى العاصمة الأردنية عمّان، لبحث المشكلة قبل أن تتفاقم وتتحول إلى أزمة بين البلدين، فى ظل الظروف الإقليمية الراهنة شديدة الحرج التى تشهد موجات هائلة من التفاعلات الصاخبة وتبدلات غير محسوبة فى مواقف كافة الأطراف خاصة التداعيات المحتملة لجريمة اغتيال الكاتب الصحفى السعودى جمال خاشقجى التى تمس أطرافاً كثيرة منها إسرائيل، وكذلك التداعيات المتوقعة لتنفيذ القرار الأمريكى بمنع تصدير النفط الإيراني. لكن بنيامين نيتانياهو فاجأ الجميع، فبدلاً من أن يذهب إلى العاصمة الأردنية عمّان لاحتواء الأزمة الطارئة مع الأردن ذهب إلى سلطنة عُمان للقاء السلطان قابوس بن سعيد.
ما الذى دفع نيتانياهو إلى «تجاهل أزمة مشتعلة» يمكن أن تهدد اتفاق السلام الإسرائيلي- الأردنى وما الذى دفعه إلى التعجيل بزيارة عُمان؟ كيف يجيب الإسرائيليون على هذا السؤال؟ هناك من استهان بالأزمة المستحدثة مع الأردن من منظور أن ملك الأردن «لن يحطم الأواني» على نحو ما كتب «يوسى أحيمئير» فى صحيفة «معاريف»، بمعنى أن بحكم ما يربط الأردن من اتفاقيات أمنية واقتصادية وسياحية تفوق أى تصور مع إسرائيل لن يقدر على تجاوز حدوده مع إسرائيل وأنه سيرضخ فى النهاية لما تريده. وهناك من أرجع الأمر إلى أن قرار الملك جاء محاولة لامتصاص أزمات داخلية أردنية اقتصادية وبعضها يخص الإحباط الشعبى من كارثة السيول فى البحر الميت وأن الأزمة «مجرد زوبعة فى فنجان» وإسرائيل مطمئنة إلى حتمية التراجع الأردنى عن القرار باستعادة القطعتين، لكن هناك من يرى أن زيارة نيتانياهو لسلطنة عُمان ليست طارئة بل إن «الزيارة العلنية والاستقبال الملوكى الذى حظى به نيتانياهو جاءت نتيجة عمل استغرق أربعة أشهر بقيادة الموساد، وأن رئيس الموساد يوسى كوهين زار مسقط للاتفاق على التفاصيل» على نحو ما كتب «رونين بيرجمان» الذى تحدث عن ثلاثة مكاسب محتملة من هذه الزيارة، أولها مكانة عمان العالية فى التوسط بين إسرائيل وأطراف خليجية أخرى عربية دون استثناء إيران، وثانيها أن تدفع هذه الزيارة حماس دول خليجية أخرى لتبادر بكشف حقيقة علاقتها الحميمة مع إسرائيل علنياً اقتداء بسلطنة عمان، وثالثها، أن تكون هذه الزيارة خطوة تأسيسية لتحالف إسرائيل مع دول الاعتدال السُنية لإحكام الطوق حول «العدو الإيرانى المشترك». قد تكون هناك مصالح إسرائيلية إضافية أخرى منها فتح قناة تفاوض جديدة مع السلطة الفلسطينية، وإرسال السلطان قابوس مبعوثاً خاصاً لتسليم رسالة إلى الرئيس الفلسطينى عقب انتهاء زيارة نيتانياهو لمسقط وقت أن كان المجلس المركزى الفلسطينى منعقداً فى رام الله، واهتمام الرئيس الفلسطينى بالتشديد على السياسيين والإعلاميين الفلسطينيين بعدم توجيه أى انتقاد لسلطنة عمان بسبب زيارة نتنياهو لها مؤشر مهم لجدية هذا الافتراض، لكن هناك مصلحة أخرى من كسب سلطنة عمان إلى «تيار السلام» مع إسرائيل، وهى الصديق الوفى لإيران، فى رسالة إسرائيلية تقول إن سلطنة عُمان أضحت مع إسرائيل وليست مع إيران، كما كانت، ومخاطبة إيران بالقول «إذا كنتم قد نجحتم أن تكونوا مجاورين لإسرائيل فى سوريا ولبنان فنحن أيضاً نجاوركم فى الخليج».
حسابات المصالح مهمة إذن لتغليب أولوية زيارة نيتانياهو لمسقط على عمَّان، لكن حسابات الأمن أكثر أهمية، فهو بتجاهله الإسراع بالذهاب إلى الأردن يريد أن يؤسس لموقف إسرائيلى هو أنه «لا انسحاب إسرائيلى من الباقورة والغمر» وتأكيد مبدأ أن «إسرائيل لن تنسحب من أرض احتلتها» وأن ما يجرى من طموحات إسرائيلية بضم هضبة الجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية سيجرى على الباقورة والغمر، والأهم أنه سيفرض على الضفة الغربية وأن على الفلسطينيين إما القبول بالحكم الذاتى أوبالكونفيدرالية مع الأردن، وأن على الأردن أن يعى هذه الرسائل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *