أخبار عاجلة

محمود عابدين يكتب… حكاية بلد «جميل» اسمه لبنان

أختطفه مجموعة من أبنائه المنتفعين الذين عبثوا باقتصاده.. وأمنه.. ومستقبل أبنائه.. فمنهم من خان نفسه قبل أن يخونه لصالح بني مذهبه.. ومنهم من سلم أسراره وثروته ومفاتيحه لمن يدفع أكثر.. فكانت النتيجة الكارثية التي نتابعها الآن.. لبنان مُهدد بـ “الضياع” إن لم يُخلص له أبناؤه ويقضوا على الفساد والطائفية والخيانة والعمالة في أقرب وقت ممكن.
وهذا ما أكد عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكــرون بعد زيارته إلى لبنان والتقائه بالقوى السياسية اللبنانية ذات الصلة بالمشكلــة.. وبدا واضحاً أن “ماكرون” نجح بشكل لافت في بث الأمل بنفوس أكثر الشعب اللبناني بعدما وعد.. بوقوف بلاده إلى جانب لبنان حتى يتخطى محنته.
وهو الأمر الذي دفع الأطراف السياسية اللبنانية إلى الالتزام بتشكيل حكومة خلال أسبوعين توافق على “خارطة طريق” تتضمن إجراء إصلاحات سريعة بدعم من رئيس الجمهورية ميشال عون.. ورئيس الحكومة مصطفى أديب.. ورئيس المجلس النيابي نبيه بري.. وعدد آخر من القوى السياسية المؤثرة في القرار اللبناني مثل حزب الله.. وهذا ما ينتظره الجميع من نتائج المؤتمر الذي سيعقد في باريس أكتوبر القادم لتقييم ما ستحققه السلطات اللبنانية.
وقبل تسليط الضوء على علاقة فرنسا بلبنان.. لابد من الإشارة إلى الاستعانة بما قاله الكتاب والخبراء عن تفجير بيروت.. حيث تم تصنيفه على أنه ثالث أقوى انفجار في التاريخ بعد تفجيري المدينتين اليابانيتين “هيروشيما وناكازاكي” بواسطة القنابل النووية الأمريكية.
حينئذ لم نرَ سياسياً لبنانياً واحداً في الشارع أو مكان الحدث.. أو حتى لمح بالاستقالة.. على عكس ما يحصل في الدول المحترمة.. فتستقيل فيها حكومات لأسباب لا ترقى إلى حجم انفجار هذا المرفأ.. بل سارع زعماء وسياسيون سابقون وحاليون إلى تحميل بعضهم البعض مسؤولية ما حدث.. لينتهي بهم المطاف – كالعادة – بإلقاء المسؤولية على موظفي المرفأ.
لكن مسؤولاً آخر كان على أهبة الاستعداد كي يزور موقع الحدث.. ويلتقي الناس العاديين في الطرقات.. ويضع النقاط على الحروف مثل ولي أمر مل إهمال أبنائه ولا بد أن يحسم أمر شغبهم الكثير.. إنه “ماكرون” الذي أصبح في بيروت بعد ساعات قليلة فقط من الكارثة.. فمشى في شوارعها المنكوبة ليحث الطبقة السياسية اللبنانية على تحمل مسؤولياتها التي لا تدركها في مواجهة أزمة البلاد.
ولم لا وفرنسا تعتبر لبنان الابنة الصغرى.. بل والقاصر أحياناً.. ما استدعى هذه السرعة في وصول “ماكرون” إلى بيروت.. فالرجل لا يريد أن يوصل رسالة الدعم والصداقة فحسب للبنان.. فلو كان هذا الهدف لاكتفى ببرقية تعازي وتعاضد وإخاء.. وبما أرسله من مساعدات طبية ومالية قبل أن يصل.. لكن لزيارة الرئيس الفرنسي إلى لبنان كان له الكثير من الدلائل والجدية في تعاطي فرنسا مع الوضع اللبناني المتردي وحسمه نهائياً.
“ماكرون” يطمح بمعالجة الأزمة الاقتصادية والسياسية التي يمر بها لبنان، خاصة بعد مطالبة الكثير من اللبنانيين برحيل القيادات الحالية المتهمين بالفساد والتقصير منذ 17 تشرين الأول أكتوبر المنصرم، ولولا جائحة كوفيد 19 لكان الشعب اللبناني ما يزال في اعتصاماتهم التي ملأت شوارع بيروت حتى اليوم.
صحيح أن الحرب الأهلية انتهت في لبنان لكن الوضع الداخلي لم يتغير كثيراً، فمازالت البلاد تحكمها الطوائف، ويتربع على كراسيها السياسية أمراء الحرب ذاتهم، وأبناؤهم فكيف تكون الحرب انتهت؟
كما أن الاستعصاء السياسي الحاصل وصل إلى طريق مسدود، لا حل في الأفق، لا أمل في تحسن معيشي أو اقتصادي، أزمة رغيف، أزمة عمل، تراجع سعر الصرف وانهيار الليرة اللبنانية، بطالة، وضع ينبئ بكارثة وكأن الحرب ما تزال مستعرة دون جبهات قتالية وعلى كل جبهات الحياة، أو معارك، لذلك فلبنان يحتاج فعلاً إلى منقذ حقيقي الآن وعاجلاً.
وفي الشوارع.. صرخ “البيروتيون” ليُسمعوا الرئيس الفرنسي أصواتهم “ساعدنا، أنت الأمل الوحيد.” ورد متحدثا عن الزعماء اللبنانيين “سأعرض عليهم اتفاقا سياسياً جديداً عندما أعود في الأول من سبتمبر”.
وحتى تكتمل الصورة أكثر فأكثر.. لابد من الإشارة إلى أن “ماكرون” في الوقت الحالي يُعتبر هو الرئيس الفعلى للبنان.. وهذه مصيبة سوداء لم تحدث من قبل.. ولأنها حدثت بسبب فقدان ثقة البنانيين في قيادتهم.
وحتى نفهم السبب الحقيقي لموقف “ماكرون” من لبنان.. فمن الضروري كذلك معرفة ما تروج له فرنسا عن الروابط التي تجمعها بلبنان.. فتقول “إنها علاقات قديمة وذات ثمرة تاريخ مشترك ونتيجة لتمسّك فرنسا بالنموذج اللبناني القائم على التعددية والتعايش والعيش المشترك”.
وتبرر فرنسا بأنها “أحد شركاء لبنان الأساسيين كما يشهد على ذلك دعمها المستمر لقرارات الأمم المتحدة التي تهدف إلى الدفاع عن سيادة لبنان، بالإضافة إلى علاقاتها الثنائية المكثّفة، وإنها تساهم في تعزيز القوات المسلحة اللبنانية من خلال دعمها في تأدية مهامها على كافة الأراضي اللبنانية، لا سيما في المناطق التي تندرج ضمن نطاق صلاحيات اليونيفيل”.
وتروج فرنسا إنها “إذ تحشد جهودها للحفاظ على أمن لبنان، تسعى لضمان وحدة هذا البلد ودعم التنمية فيه. من ناحية أخرى، هي تدعم توطيد دعائم دولة القانون.. علاوة على ذلك، تبقى متضامنة مع لبنان الذي يواجه توافداً كبيراً للاجئين السوريين وهي بالتالي تقدم المساعدة لصالح الفئات الاكثر هشاشة في البلاد، سواء أكانت هذه الفئات من النازحين أو من المجتمعات المضيفة”.
وهناك من يرى ثمة ترجمة أخرى لأواصر الصداقة بين فرنسا ولبنان، ألا وهي حيوية الفرنكوفونية ونوعية التبادلات الثقافية، وهي تبادلات مكثفّة لا سيّما في مجالات التعاون الجامعي والأبحاث.. وأخيراً، تبقى فرنسا شريكا اقتصادياً مميزاً للبنان. والواقع أن الاستثمارات الفرنسية في الاقتصاد اللبناني وتواجد الشركات اللبنانية في فرنسا هما خير دليل على المصالح المشتركة في إطار تعاون مستدام بين البلدين.
تبريرات فرنسا عن دعمها للبنان يشوبه خلط بين من وجهة نظر المتابعين لهذه العلاقة.. فناك قوى سياسية ترفض هذا الخلط وتطلق على فرنسا لقب “أمنا الحنونة فرنسا”.. وقد اشتهرت هذه العبارة في تسعينيات القرن الماضي حين أطلقها برنامج كوميدي لبناني بمناسبة كأس العالم الذي استضافته فرنسا.
“الأم الحنون فرنسا”.. كلمات لها مغذى عند اللبنانيين.. تُقال من باب السخرية حيناً، ومن باب الإشادة حيناً آخر، تبعاً لخلفيات القائل. فالعلاقة مع فرنسا إشكالية ومتشعّبة، ولم تحظَ يوماً بإجماع اللبنانيين.
لذا لم تكن زيارة “ماكرون” العاجلة إلى بيروت مؤخراً غريبة.. بل جاءت كـ”خطوة طبيعية” نظراً لتعاطي فرنسا مع لبنان كأنه “حصتها” في الإقليم.. وهذه ليست المرّة الأولى التي يهرع فيها رئيس فرنسي لنجدة لبنان.. فبعد التفجير الذي أودى بحياة رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري عام 2005، ركب جاك شيراك طيارته، وحطّ في بيروت لمواساة العائلة.. وعند وفاة شيراك العام الماضي، ساد الحداد الإعلام اللبناني المحلّي، في استذكار “صديق لبنان الكبير”.
وخلال ولايته، رعى الرئيس الأسبق شيراك مؤتمرات باريس 1 و2 عام 2001 وباريس 3 عام 2007 لدعم لبنان اقتصادياً.. ونجح بجمع مليارات الدولارات من الجهات المانحة.. وفي عام 2018، رعت فرنسا من جديد مؤتمر “سيدر” لدعم لبنان، بعد فشل الدولة اللبنانية بإنجاز الإصلاحات الموعودة في مؤتمرات باريس الثلاثة.. وجمعت أكثر من 12 مليار دولار.. لم تفلح في تجنيب البلاد الأزمة المالية الخانقة التي تشهدها حالياً.
ويزيد اهتمام فرنسا بلبنان تبعاً لأجندة الرئيس، لكنّ الثابت أنّ الاهتمام كبير. ففي عام 2008، وبعد فترة قصيرة من انتخابه رئيساً، حضر نيكولا ساركوزي إلى بيروت، ومعه وفد كبير من وزراء ورؤساء أحزاب فرنسية. جاء ذلك خلال لحظة حساسة في السياسة اللبنانية، بعد الاتفاق على انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.. وفي حالة “ماكرون” فقد زار بيروت قبل انتخابه، والتقى بممثلين عن المجتمع المدني، وأبدى إعجابه بالأكل اللبناني.
وبعد انتخابه.. لم يهنأ له بال من جهة “بلاد الأرز”.. ففي العام 2017، بعد أزمة احتجاز سعد الحريري في السعودية، كان للوساطة الفرنسيّة دور في تحريره، وزار الحريري قصر الإليزيه مع عائلته فور الإفراج عنه.. وليس غريباً أن يبادر آلاف اللبنانيين لتوقيع عريضة تطالب “بعودة الانتداب” الفرنسي، فهناك جزء من الشعب اللبناني يشعر بارتباط ثقافي وهوياتي مع فرنسا، ويعدّ ذلك من أوجه الخلاف التي أخذت مناحٍ دامية بين اللبنانيين.
فمن الانقسامات التي مهّدت للحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، الخلاف على هوية لبنان، إذ كان اليمين اللبناني ينادي بـ “فينيقيّته”، فيما كان اليسار والتيارات القومية العروبية تنادي بعروبته.. أحد أوجه تلك الهويّة “الفينيقية” التماهي مع الثقافة الفرنسيّة.. والاعتداد بها.. مما كان يستفز الطرف الآخر ذي الولاءات العربية.. وبالطبع، كان لتلك الانقسامات أرضيّة طائفيّة.. مع اعتبار السياسيين الموارنة خصوصاً.. والمسيحيين عموماً.. أنّهم يدينون بالولاء للغرب.. وفي مقدّمته فرنسا.. وفي أدبيّات التيارات الطائفية المسيحية.. فإنّ فرنسا ستهبّ دوماً لحماية المسيحيين في لبنان من أيّ خطر وجودي.
وهناك من يؤكد أن دعم فرنسا للبنان بدأ منذ القرن الثالث عشر.. وقد أخذت فرنسا على عاتقها حماية الكاثوليك في لبنان في معاهدة وقّعت عام 1535.. وتمتدّ المراسلات بين الملوك الفرنسيين والبطاركة منذ ذلك العهد.. فمثلاً.. الجنرال الفرنسي غورو.. خلال إعلان دولة لبنان الكبير بقصر الصنوبر عام 1920.. وفي العام 1860 تدخلت فرنسا مباشرة لحماية الموارنة بحملة عسكرية كبيرة، خلال المواجهات الطائفية الدامية بين الدروز والموارنة في جبل لبنان.
وبعد الحرب العالمية الأولى.. ومع تفكّك الدولة العثمانية.. اعترفت الدول المنتصرة بحقّ فرنسا باستعمار لبنان حصةً لها.. وهنا يمكننا أن نفهم جيدا زيادة حدة التصعيد الأخير بين اللص العثماني والذئب الفرنسي.. فكلاهما له مطامع في ثرات لبنان بشرق المتوسط.. وبعودتنا إلى الماضي البغيض.. سنجد أن هذا الحقد الاستعمارى المُذل لشعوب المنطقة نتيجة تقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية للدول العربية بين الاستعمارين: الفرنسي والإنكليزي.. وذلك وفق الاتفاقية المشئومة “سايكس بيكو”
وهكذا كانت فرنسا هي من استولت على دولة لبنان، ايفاءً بوعدها للبطريرك الماروني “الياس الحويك” في سبتمبر 1920.. وهي المناسبة التي يعيها جيدا “ماكرون” ويزور لبنان للاحتفال بها.
نضف إلى ما سبق.. استمرّ الانتداب الفرنسي على لبنان حتى حصوله على الاستقلال عام 1943.. إذ لم يغادر آخر عسكريّ فرنسي الأراضي اللبنانية حتى عام 1946.. لكن قوانين لبنانية نافذة كثيرة.. تعود لذلك العهد.. ومنها قانون الجنسية الذي يحرم النساء اللبنانيات من منح جنسيّتهنّ لأولادهنّ.. وقد قاوم اللبنانيون الاستعمار الفرنسي.. وكان جزء كبير منهم يرفضونه منذ بدايته.. وبدأت فكرة الاستقلال تتبلور مع كتابة ما سمي بالميثاق الوطني اللبناني.. والمطالبات بإعادة صياغة الدستور.
كما شهدت فترة الانتداب مراحل عنيفة.. وتشير المصادر التاريخية إلى مواجهات أدّت إلى قتل عدد من اللبنانيين على يد الجنود الفرنسيين.. وفي مدن مثل طرابلس وصيدا نصب تذكارية لهم.
وقبل أن يكون الانتداب الفرنسي واقعاً عسكرياً.. كانت الثقافة الفرنسية عاملاً مؤثراً في لبنان منذ القرن التاسع عشر مع المدارس الإرسالية الفرنسية التي كان لها دور مهمّ ولا يزال في صياغة نخبة من المتعلّمين والمثقفين.
وحتى اليوم.. يعدّ المعهد الفرنسي مركزاً ثقافياً أساسياً في العاصمة اللبنانية.. يتولّى تسهيل معاملات الطلاب اللبنانيين الراغبين بمتابعة تعليمهم في فرنسا.. وهم كثر.. كما يحتضن المعهد أحداثاً ثقافية عدّة.. ويموّل أعمالاً فنية ومسرحيّات.. ويعدّ من أبرز الداعمين للنشاط الفني على الساحة المحليّة.
كما تدار معظم المدارس الفرنكوفوية في لبنان من قبل رهبنات تابعة للكنائس الكاثوليكيّة.. وبعض أشهرها مدارس علمانيّة.. ويتعلّم التلاميذ اللبنانيون اللغة الفرنسية كأنها لغتهم الأم الثانية.. ويقدّم جزء كبير منهم الامتحانات الرسميّة في مختلف المواد باللغة الفرنسيّة.. ويشتهر أدباء لبنانيون كثر بالكتابة اللغة الفرنسيّة.. وبعضهم له وزن كبير على صعيد الأدب الفرنكوفوني عالمياً.. من بينهم الشاعر اللبناني الكبير صلاح ستيتية الذي توفي قبل أشهر. ومن بينهم أيضاً الروائي الشهير أمين معلوف.. وهو أوّل لبناني ينتخب في عضوية أكاديمية اللغة الفرنسية.
وتعدّ باريس ملاذاً آمناً لآلاف الطلاب اللبنانيين سنوياً، كما تعيش فيها جالية لبنانية كبيرة، وكذلك يعيش آلاف الفرنسيين في لبنان. وتدعم فرنسا قوات “اليونيفل” التابعة للأمم المتحدة بأكثر من 600 عنصر، كما تعدّ من أبرز الجهات المستوردة من لبنان.. وللحديث بقية عن أعداء لبنان: لبنانيون وعرباً وفرس وعثمانيين و…..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *