لصديقنا الطبيب الشاعر الدكتور أحمد تيمور قصيدة تتسم بأعلى درجات الرومانسية السياسية عنوانها «أريد رئيساً» فهى تتطلب فى الرئيس المطلوب مواصفات لا تتوافر إلا فى الملائكة. من ناحية أخري، فقد اهتم الدستور وقانون انتخاب الرئيس بتوفر عدد من الشروط المادية والقانونية لا علاقة لها بالثقافة والتعليم كما لا يمكنها أن تقدم مؤشراً واحداً على احتمال صلاحية الحاكم. من ناحية ثالثة، فإن تاريخ الفكر السياسى حفل بالكثير من الكتابات التى ركزت على الحكم الصالح مثلما ركزت الأمم المتحدة وهيئاتها على مواصفات الحكم الرشيد. والحق أن منهج إصلاح الحكم ومتطلبات وشروط الحاكم الصالح ثبت فشلها لسبب بسيط وهو ان الشعب هو الوعاء الذى يخرج منه الحكام. وفى الحالة المصرية فإن تاريخ مصر وتجربتها السياسية على الأقل منذ عام 1952 تقطع بما قاله أول بيان فى 23 يوليو 1952 وقرأه الرئيس المرحوم أنور السادات «أن الناس على دين ملوكهم» هذه الخاصية فى تاريخ مصر ليست قائمة فى تاريخ النظم الديمقراطية لأن الحاكم لا ينبت من أرض مختلفة ولذلك صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال «كما تكونوا يولى عليكم». اى أن الشعب هو الذى يخرج منه الحاكم وليس الشعب هو الذى يختار الحاكم وهذه قضية أخرى تتعلق بطريقة وصول الحاكم إلى الحكم.
وفى التاريخ المصرى يحدثنا القرآن الكريم فى قصة سيدنا موسى عليه السلام ان فرعون مصر كان إلهاً، وأن خطورة موسى هى تحدى الشرعية السياسية لهذا الإله. ولذلك حرص الفرعون على مطاردة موسى وفأله السيىء وورد بعبارات القرآن الكريم نصوص واضحة وأهمها ما ورد على لسان سحرة فرعون عندما سحروا أعين الناس بينما تلقفت عصى موسى اسحارهم، وتبين لهم بخبرتهم العميقة أن ما أتى به موسى ليس سحراً ولكنه معجزة من السماء، فأعلنوا إيمانهم برب موسى وهارون. فكان الرد التلقائى من فرعون أن أنبهم على انهم امنوا به قبل أن يأذن لهم وهى دلالة قاطعة على ان الملك الإله يملك الإيمان والكفر، كما يملك الموت والحياة. ولكن القرآن لفت أيضاً الى أن هذا الفرعون الذى طغى وتجاوز حدوده ودخل فى أرض محرمة لله سبحانه وتعالى قد حكم شعباً لذ له الخضوع بسبب جهله وبسبب اعتماده الكامل وانقياده فى الدين وفى أمور الحياة لهذا الإله المزعوم، فجاء فى القرآن الكريم «فاستخف قومه فأطاعوه». والعلاقة بين الاستخفاف والطاعة علاقة تاريخية لان الحاكم فى مصر لا يستطيع أن يكون مقنعاً لشعبه إلا إذا مارس الاستخفاف بهم واستعبدهم، ولن يتم له ذلك إلا بتعطيل عقولهم وتجريف ثقافتهم، وقلب موازين الصحة والخطأ لديهم، وهذه هى الطريقة الوحيدة التى تمكن بها حكام مصر حتى هذه اللحظة من الهيمنة عليها.وسوف يظل ذلك ما لم يتم تثقيف هذا الشعب وإصلاح ذات البين بين صفوفه واشعاره بانه يجب ان يتقدم وأن يختار الحاكم وأن يراقبه وأن يحكم بمعايير قاطعة واضحة على صلاحه أو فساده.
ولذلك أرى أن الاجتهاد فى وضع الشروط للحاكم ونظام الحكم وغيره من الاجتهادات التى تحفل بها الدساتير فى مصر لم تهتم بالمحكوم، وهذا أكبر دليل على أن المصريين الذين يتولون هذه المهمة لايريدون ديمقراطية حقيقية لأن الديمقراطية لا تتأتى بالنماذج النظرية الفاخرة لنظم الحكم، ما دامت الدساتير وضعت لكى لا تحترم نصوصها. والحارس الحقيقى لها ليس الحاكم وإنما المحكوم. فإذا كان المحكوم غافلاً عما يفعله الحاكم وفقا للدساتير وان الدستور صناعة خاصة لا يجيدها إلا المحترفون من أرباب المصالح والحيل السياسية واللاأخلاقية وأن القضاء الدستورى قضاء ارستقراطى لا تفهم العامةأحكامه ، فكيف ينشئ ذلك نظاماً ديمقراطياً يقوم على محاسبة الشعب للحاكم بعد أن يكون قد اختاره.فالقدرة على الفرز والاختيار ثم القدرة على المحاسبة هما مناط النظام الديموقراطي.
واشهد أن النخب السياسية والثقافية فى مصر قد اشتركت فى الدجل السياسى على هذا الشعب فحرمته من أن يملا بطنه، كما جرفت عقله، فكيف للمواطن الجائع بطناً وثقافة وعقلاً أن ينشئ ديمقراطية وأن يميز بين الصالح والطالح من المرشحين.
لكل هذه الأسباب أرجو ان يهتم المصلحون والكتاب والمسئولون باصلاح المواطن واصلاح احواله المادية والفكرية والعقلية فى المأكل والملبس والتعليم والثقافة والإعلام والصحة حتى يمكن القول بأن الكرامة قد توفرت لأن الاعلان عن أن الكرامة هدف يتحقق لا يمكن ان يكون دقيقاً إلا إذا توافرت مقومات الكرامة، فلا كرامة لجائع، ولا كرامة لأمي، ولا كرامة لمجنون طار عقله لعدم قدرته على استيعاب الواقع المخزي، ولا كرامة لمظلوم، ولا كرامة لمريض. من ذلك يتضح ان شعارات 25 يناير لن تتحقق بالبيانات الكاذبة، وأن الجدير بمصر والمصريين أن يقوموا بثورة كبرى ضد أنفسهم لكى يترجموا شعارات يناير إلى واقع فليغير كل منا نفسه وليكن معيار المفاضلة بين الحكومات هو اشباع البطن والعقل ولا يهمنا بريق البرامج والوعود الكاذبة، كما لا يهمنى من يقوم بهذا العمل وقد أصبحت من فرط يأسى أعتنق مذهب ماوتسى تونج الزعيم الصينى الأشهر، الذى قال يوماً «لا يهمنى لون القط مادام قادراً على اصطياد الفئران» والفئران فى حالتنا هى الحاجة والقهر وغياب العقل. أما القط فهم الفرسان الذين لم يظهروا من خلف السحب. وأرجو أن يتقدموا لحمل هذه الرسالة الحضارية.
لا قيامة لمصر إلا إذا صلح مواطنوها، ولا تصدقوا ذلك الفيلسوف الذى بشرنا يوماً حتى نبتلع الإهانة والقهر، بأن حرية الوطن مقدمة على حرية المواطن، فلا كرامة لوطن قهر حاكمه أبناءه.