أفٍ من هذا الحال، ما اصبر المتفائلين، كأنهم عما يحيط بهم جاهلون، كأنما هم يظنون أن رقى مصر تكفى فيه الأمانى المجردة بعد يناير 2011 ويونيو 2013، أو أنها نتيجة من نتائج المصادفة، لا نتيجة لازمة لمقدمات عملية من أنواع شتى.
يظلون متفائلين بالخير، منتظرين أنواع الرقى تدخل عليهم من الأبواب كالباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه. هذا هو حال الشعب المصرى بعد الثورة وحتى اليوم، لا ينتجون لا يعملون لا يستثمرون يعترفون بأن الحال الأخلاقية عندنا فى اضطراب شديد، بل فى انحطاط مستمر، لا مقطوع ولا ممنوع، يعترفون بأن الروابط المجتمعية والوطنية بين الفئات المختلفة تتراخى وتوشك أن تنحل. يعترفون أن روابط العمل والانتماء بين شركاء الوطن قد انقلبت فى موضوعها وفى ألوانها.
فموضوعها الشر لا الخير، والمفسدة لا المصلحة، ولونها التملق والنفاق، يعترفون بأن حكامنا كأنهم أغراب عنا وهم أبناء مصر الأعزاء، همهم الخروج من المسئولية لا احتمال المسئولية، ودفع الضرر عن أنفسهم لا جلب المنفعة للوطن.
يعترفون أيضاً بأن السلطة فى شكلها الحاضر كأنما هى لمصلحة جبهاتها لا لمصلحة المحكومين، يعترفون بأن التعليم الذى تقدمه الحكومة بأموالنا لم يخرج لنا جيلاً يقوّم من اعوجاجنا ويصلح ما أفسده الاستبداد من أخلاقنا. ويفتش عن مواطن الضعف فى جمعيتنا فيقومها، يحمل همنا ويكسب ثقتنا، فيجعل من مصر، بعد الثورة وطناً عزيز الجانب باراً بأبنائه، سائراً الى الامام لا راجعاً إلى الوراء.
يعترفون بأن أبناءنا المتعلمين نحن نطعمهم ونحترمهم، وهم فى مقابل ذلك يدفعون لنا وعوداً بأنهم عاملون على خيرنا، ولكننا مع ذلك نجد منهم امرءا فضَّل الاستقالة من وظيفة على ان يوقع أمرا يقول هو عينه فى مجالسه إنه ضار بالبلاد، لا يريد العمل أو يقول يدى مكتوفة بل هى والحق مرتعشة.
يعترفون بذلك كله، ولكنهم مع ذلك على تفاؤلهم عاكفون. ينكرون الحس، ينكرون بأفواههم ما تعترف به ضمائرهم، بل هم يعترفون بحالتنا السيئة وهم صادقون.
ثم يزين لهم مذهب التفاؤل أننا على الرغم من ذلك كله سائرون إلى الأمام بعد ثورة أسقطت كل الحواجز التى كانت تعوق التقدم والتنمية، فما اصبرهم على التناقض فى أفكارهم وأحكامهم، الا ساء ما يحكمون؟ كذلك يقول المتطيرون عن المتفائلين، أما المتفائلون فإنهم على غير ما يقول المتطيرون يقدرون الحال تقديراً لا تشوبه الحدة ولا تبالغ فيه العجلة فى النظر. يرون حقيقة الأمر شيء فشيئا، فيرون أن عاداتنا وأخلاقنا، بل وشخصياتنا القومية جميعها (بعد الثورة وحتى الآن)، قد قل فيها التجانس وكثر فيها التضاد والتصادم وغلب عليها طابع قانون الغابة. يرون حقيقة أن قوتنا فى بلادنا تتضاءل مع الزمان، حتى أن وزارتنا التى هى مظهر القدرة الأهلية فى مصر، لا تشبه وزارات الدول الكبرى فى مواجهة الصعاب والازمات، كونها تملك شيئاً من السلطة تستخدمها لمصلحتنا نحن الشعب.فهل هى حقا مرتعشة الايدى كما يقال!.
يرون كل ذلك، ولكنهم يرون معه أن هذا الاضطراب والأيادى المرتعشة دليل على المرحلة الانتقالية ومن المستحيل عندهم أن يكون الانتقال الى حال أقبح من الحال الحاضر، بل الانتقال صائر إلى حالة أحسن من هذا الحال. لأن مشخصاتنا القديمة كانت فى ظاهرها متجانسة ومتماسكة، ولكنها فى الحقيقة كانت مؤسسة على الاستبداد والاستغلال والفساد وقهر الطبقات الفقيرة والمتوسطة، فإصلاحها وتغيرها بعد الثورة وانعدام الاستبداد على صورته الأولى، سبب قوى يحمل على الاعتقاد بأنها بعد زمان قريب أو بعيد، سيتم الانتقال بالدستور والبرلمان والرئيس الجديد، من الحال التعيسة، حال طبائع عدم الاستقرار والتقدم الى الحال الحسن، اى حال طبائع الاستقرار والتقدم والتنمية.
وهناك يمكن أن ننادى أن مصر العجوز قد صارت مصر الفتاة، وأن مصر المحكومة صارت مصر الحاكمة. وما هؤلاء المتطيرون إلا ضيقو الصدر قليلو الصبر، يتطيرون من الخير ومن الشر على السواء. ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون.فالخير قادم والبينة على من ادعى، فنحن لسنا فى حاجه الى ثورة ثالثة بل نحن فى حاجة الى ثورة فى العقول على كل المستويات، وإرادة سياسية صادقة ومخلصة لمصر ولا شىء غير مصر.