مرت مصر عبر تاريخها الحديث بالعديد من الدساتير بدءا من دستور عام 1882م المكون من 53 مادة فى عهد الخديوى توفيق إلا أنه لم يقدر له الاستمرارا نتيجة للاحتلال البريطانى لمصر فى نفس العام والذى أوقف الدستور وحكم مصر بما أسموه ” القانون الأساسى ” حيث قضى على كل أمل لحرية أو فكر أو إبداع أو إصلاح ، ومن ثم تسببت المصادرات الإنجليزية والأحكام العرفية فى انتفاضة الشعب المصرى فيما عرف بثورة 1919م التى أسفرت عن دستور 1923م أحد أعظم دساتير مصر بمواده المائة والسبعين .
لقد نص هذا الدستور العظيم على أن المصريين سواء أمام القانون ، وأنهم متساوون فى الحقوق والواجبات والتكليفات ، وأنه لا تمييز بينهم بسبب الأصل أو اللغة أو الدين ، وأن الحرية الشخصية مكفولة ، ولا يجوز القبض على شخص أو حبسه إلا وفق أحكام القانون ، كما راعى الدستور حرمة المنازل وسرية الخطابات والتلغرافات ، على أنه كانت أخطر مادة بالدستور هى المادة 149 والتى اقترحها شيخ مشايخنا العلامة محمد بخيت المطيعى مفتى مصر الأسبق وعضو لجنة الدستور وقتها ونصها ” الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية “. لم يستطع أحد من دعاة العلمانية وقتها أن يعارض هذه المادة العظيمة .
لقد شعر الشعب المصرى بالانتصار عقب صدور هذا الدستور وعبروا عن انتصاراهم هذا بالتصويت لمن كان سببا فى هذا الدستور لسعد زغلول وحزب الوفد الذى كان حزب الشعب المصرى كله آنذاك فأسفرت الانتخابات البرلمانية بنسبة تزيد عن التسعين فى المائة لهذا الحزب ولزعيمه الذى شكل أول وزارة عرفت باسم وزارة الشعب بحق وحاولت أن تلبى طموح الجماهير قدر استطاعتها .
إن هذه المكاسب التى تحققت فى دستور 23 وما بعده لم تنل إعجاب بعض المنتفعين فأشاروا على الملك فؤاد باستبدال هذا الدستور بدستور آخر وهو دستور 1930 بمواده المائة وستة وخمسين حيث أعطى للملك صلاحيات عديدة تجعله يقضى على معظم المكاسب التى تحققت فى الدستور السابق .
لم يهنأ الملك فؤاد ولا رئيس وزرائه إسماعيل صدقى الذى أشار عليه باستبدال الدستور فانتفض الشارع المصرى ضد هذا الدستور اللعين وظلوا يعارضونه حتى أسقطوه وأعادوا العمل بدستور 1923 العظيم .
ظل العمل بدستور 23 من العام 1935م حتى قيام ثورة يوليو 1952 ” الحركة المباركة” كما اعتاد الرئيس الأسبق محمد نجيب أن يسميها وكذا ثلة من الضباط الأحرار ، وهنا أوقفت الثورة العمل بالدستور وأعلنت إعلانا دستوريا إلى أن وضع مشروع دستور 1954 بمواده المائتين وثلاث لكن لم يقدر له التفعيل .
فى العام 1956م عرفت مصر دستور 56 والمكون من مائة وستة وتسعين مادة ، ثم فى العام 1958م عرفت مصر دستور الجمهورية العربية المتحدة والمكون من ثلاث وسبعين مادة عقب الوحدة بين مصر وسوريا .
وفى العام 1964م شهدت مصر دستور 64 والمكون من مائة وتسعة وستين مادة ، وهذا الدستور جاء بعد انفراط عقد الحدة بين مصر وسوريا وظل معمولا به حتى بعد وفاة الرئيس جمال عبدالناصر عام 1970م .
فى العام 1971 دعا الرئيس الراحل محمد أنور السادات لجنة من خيرة رجال مصر لوضع دستور وصفه بالدائم وقد دام بالفعل مهيمنا على الحياة الدستورية عشرات السنين من العام 1971م حتى قيام ثورة يناير 2011م .
اشتمل هذا الدستور على مائتين وإحدى عشرة مادة ، وراعى السادات بحق فيه الحرص على مبادىء الشريعة وأحكامها فقد رفعت المادة الخاصة بدين الدولة من المرتبة 149 فى دستور 1923م إلى المرتبة الثانية وأضيف إليها مبادىء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع ، بل وشكل لجنة فى أواخر السبعينات لتقنين القوانين لتواكب ما نصت عليه المادة الثانية ، لكن الاقدار قالت قولها واستشهد السادات رحمه الله وتوقف مشروعه عشرات السنين إلى أن قامت ثورة يناير 2011م .
عقب تخلى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك عن منصبه وتوسيد أمر الحكم فى مصر إلى القوات المسلحة أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعطيل دستور 71 – والذى كان بحق من أعظم دساتير مصر لولا العوار الذى أصابه فى باب الحكم عقب التعديلات التى أجريت عليه فى العام 2007م – وأصدر إعلانا دستوريا من ثلاث وستين مادة فى مارس 2011م وعرفت واقعة الاستفتاء عليه بغزة الصناديق إذ توجه التيار الإسلامى جميعا للحشد والتصويت بنعم .
فى العام 2012م وعقب الانتخابات الرئاسية التى أسفرت عن فوز الدكتور محمد مرسى تشكلت لجنة المائة لوضع دستور جديد وانتهت اللجنة برئاسة المستشار حسام الغريانى من وضع الدستور المكون من مائتين وستة وثلاين مادة ورغم عظمته فى مواضع عديدة إلا أنه حمل فى طياته موادا عبرت عن خطورتها وقتها بأنها تمثل فخاخا وقنابل موقوتة ، وقلت فى غير حلقة تلفزيونية أن مصير هذا الدستور سيكون كمصير دستور 30 الذى ثار الشعب ضده واسقطه ، وقال غيرنا من المنظرين والمفكرين والنخب هذا الكلام وحذر الجميع من نتائج وسيناريوهات جد خطيرة إلا ان النظام الحاكم وقتها لم يلتفت لأى نصح أو تحذير ومضى فى طريقه متحديا الجميع . لكن هيهات هيهات أن يظفر من يتحدى إرادة الشعب.
لقد خرج الشعب للميادين بالملايين رافضا هذا النظام الذى لم يستمع لأحد إلا نفسه ، وكانت النتيجة إزاحة النظام بأكمله ووضع خارطة طريق نصت على تعطيل دستور 2012م وإجراء تعديلات دستورية عليه ، ومن ثم تشكلت لجنة الخمسين برئاسة السيد عمرو موسى التى وضعت دستورا من أفضل وأعظم دساتير مصر عبر تاريخها الدستورى الطويل …. وهو ما سنتناوله بمشيئة الله تعالى فى اللقاء القادم .