بعيداً عن شائعات وعبث صِغارنا في الداخل والخارج، سواء أكانوا من فئة الحاقدين على النظام الحالي ( الإخوانجية ) أو المغيبين أو المتأثرين بكلام هؤلاء الحاقدين عن ملف “سد النهضة”؛ فلا يجب التسليم بأن هذه القضية وليدة اليوم أو أمس كما يروجون؛ فعداء الأنظمة الإثيوبية الموالية للصهيونية العالمية مؤكدة ضد مصر منذ زمن بعيد وحتى الآن؛ لدرجة أن هذا العداء أصبح منهجاً وعقيدة لكل من يعتلي سدة الحكم في هذا البلد الإفريقي الشقيق لأسباب معروفة وواضحة جدا.
الديكتاتور “هايله سيلاسي” نموذج أصيل لهذا العداء؛ مثله في ذلك مثل “آبي أحمد” و “ديسالين” وغيرهم من الموالين لهذه الفئة الحاقدة على غيرها من أصحاب الديانات السماوية والحضارات العريقة، ويخطئ من يظن أن “الصهاينة” وصبيانهم سيتراجعون يوما عن سياستهم العدائية تجاهنا إلى قيام الساعة لأسباب – كما أشرنا – توراتية بحته؛ وما كتبه عالمنا الجليل الدكتور مصطفي محمود في مؤلفيه: “التوراة” و”الموامرة الكبري” عن المكائد والخطط الاستعمارية لمصر خاصة والمنطقة عامة، يؤكد يوما بعد يوم ما يجرى الآن ومن قبل على أرض الواقع.
وبالرجوع إلى علاقة مصر بأثيوبيا، سنجد أن قدماء المصريين منذ فجر التاريخ حرصوا على احتواء وتجنيد القبائل الإثيوبية لصالحهم ضد أعدائهم؛ وذلك من خلال علاقات تجارية مميزة بينهم، إلى أن عبثت الصهيونية الحاقدة في جينات كل من يجلس على العرش الإثيوبي، وتحديدا في عهد الخديو إسماعيل محمد سعيد – والى مصر والسودان من يناير 1863 وحتى يونيو 1879 – حيث استطاعت قوى البغي والحقد والتآمر على مصر ( مجموعة من الدبلوماسيين الأجانب الذين أحاطوا بعرشه ) أن تُشعل نيران الخلاف بينه وبين إثيوبيا، فما كان منه إلا أن عمل بمشورتهم في استئجار جيش من مرتزقة: أوروبا وأمرريكا ( 9500 مرتزق تقريبا) لغزو إثيوبيا مرتين متتاليتين فاشلتين في فبراير ومارس العام 1875 في موقعتين سُميتا بـ “جوندات” و”جورا” مقابل آلاف الجنيهات الذهبية بعيدا عن جيش مصر بالطبع، وهذه قضية أخرى لها “غصة” في حلق الإثيوبيين، ولا مجال هنا لذكرها.
لكن ما يجب التركيز عليه فى سياسة الخديو إسماعيل؛ هو توابع مغامرتيه الفاشلتين لغزو إثيوبيا بجنود مرتزقة، والتي أغرقت مصر فى تراكم الديون الأوروبية، مما دفع بريطانيا للتحرك بدعوى استرداد أموالها واحتلال مصر فى 13 سبتمبر 1882، ومنذ هذا التاريخ؛ استمرت الحرب المعلنة بين مصر وإثيوبيا حتى وقع القطران بوساطة بريطانيا اتفاقية “هويت” لوقف الحرب بينهما؛ وبذلك عادت الأمور إلى طبيعتها حتى تولي الإمبراطور المارق “سيلاسي” حكم بلاده عام 1930.
ولإظهار الدور الصهيوني في تلك المؤامرة، يجب تسليط الضوء على نسب “سيلاسي” كما هو مُشاع في التاريخ الإثيوبي؛ حيث ينتمي إلى سلالة ملكة سبأ؛ زوجة الملك “سليمان بن داود” ثالث ملوك مملكة يهودا الموحدة، والذى حكم فى الفترة من 970 حتى 931 ق.م؛ ومنذ اليوم الأول لتوليه حكم إثيوبيا، أعلن إخلاصه للصهيونية العالمية، فكانت أولى خطواته لإثبات هذا الولاء أن جعل شعار جيشه “شبل أسد يهودا”، وهذا الشعار – كما هو ثابت تاريخيا وأثريا – عبارة عن رمز جيوش الملك سليمان الذى تبنته فيما بعد بلدية القدس عقب احتلالها على يد مرتزقة بني صهيون 5 يونيو 1967، في تحد ظاهر أو ربما متعمد لمصر خاصة، والعرب عامة.
علما بأن “سيلاسي” سبق وقام بزيارة شهيرة لمدينة القدس عام 1924 معلنا تأييده وتبرعه بالذهب الإثيوبي لتسليح العصابات الصهيونية القادمة لأرض فلسطين من كل بقاع الأرض!!، فما كان من العرب بقيادة كل من مصر والسعودية؛ إلا إعلان رفضهم التعامل مع الإمبراطور المارق.
ونتيجة التحالف الإثيو – صهيوني الذي أصبح يُهدد وحدة العرب كافة، وفي مقدمتهم نيل مصر؛ حاول فؤاد الأول – ملك مصر والسودان – بالاتفاق مع “موسوليني” – رئيس الحكومة الإيطالية حينئذ – الإطاحة بهذا المارق لتأييده وتبنيه المشروع الصهيوني لابتلاع فلسطين وتهويد ديانتها، وقد لعبت الأقدار في ذلك الأمر دورا عظيما حينما كشف “موسوليني” لملك مصر عن قراره بغزو إثيوبيا في اكتوبر 1035 لفتح طريق برى أمام جيشه داخل المستعمرات التي احتلتها إيطاليا في كل من: الصومال وإريتريا، وقد كان؛ فهزم “موسوليني” الامبراطور الإثيوبي، وأعلنت إثيوبيا فى 5 مايو 1936 مستعمرة إيطالية، وتم نفى “سيلاسى” إلى بريطانيا منذ هذا التاريخ، وحتى عودته إلى عرشه بإثيوبي 18 يناير 1941 في احتفال شعبى كبير.
ولأن “سيلاسي” مجرد ترس في العجلة الماسونية العالمية، فكان ضروريا أن يُنفذ الأوامر التي يتلقاها من أسياده، وهي افتعال المشاكل السياسية والدينية مع مصر لذات الأسباب التي تشهدها الساحة السياسية اليوم على يد “آبي أحمد”، مهددا بمحاربة الكنيسة الأرثوذكسية المصرية فى إفريقيا إذا لم توافق على منح كنيسة بلاده أرثوذوكسية خاصة بها، فكان له ما أراد، عن طريق رجل السلام والتسامح البابا كيرلس السادس باب الإسكندرية عام 1959.
وفي خطة تصعيدية أخرى، وقت انشغال مصر بتوابع ثورة يوليو المجيدة، بدأ “سيلاسي” في استخدام ذات الإسلوب العدائي ضد مصر عام 1953 عندما أنشأ سدا على مجرى نهر النيل، وهو السد الذي عُرف حينئذ بـ “سد تيس أباي 1 و2 ” لنفس المزاعم “توليد الكهرباء”، وعندما اشتم الخبر الزعيم الخالد جمال عبد الناصر ( عضو مجلس قيادة الثورة حينئذ والرئيس الفعلى لمصر ) ثارت ثائرته ضد الرئيس محمد نجيب؛ بحسب تقرير منسوب لوكالة الـ (سي.آي.إيه) الأمريكية، فاعتبرها “ناصر” وبقية الضباط الأحرار قضية أمن قومى مصري من الدرجة الأولى، ولا يجب الصمت عليها أو الرضوخ لها.
واعترف “نجيب” بخطئه غير المقصود لخطورة هذا الموضوع، ومنح “ناصر” توكيلاَ للتعامل مع الصلف الإثيوبي حول السد، وبعيدا عن كثرة التفاصيل حول هذا الموقف وتلك الفترة؛ فقد اتفق “ناصر” مع محمود فوزى – وزير خارجيتنا آنذاك – على تفويضه صلاحيات رئيس الجمهورية كاملة للتعامل مع الإمبراطور المارق في هذا الملف؛ فكتب “ناصر” خطابا شديد اللهجة بتاريخ 1 نوفمبر 1953 حمله “فوزي” إلى “سيالسي” هذا نصه:
– عظمة الإمبراطور هايله سيلاسى؛ من البكباشى جمال عبد الناصر (القيادة العامة المصرية) تحية عطرة؛ النيل يعنى مصر، وباسم مصر ورئيسها وجيشها العظيم؛ نطالبكم بوقف أعمال بناء «سد تيس أباى» فورا، وقد نمى إلى علمنا أنكم تشيدونه على نهر النيل دون إخطارنا، وأن ارتفاعه يبلغ 112.5 متر لتوليد طاقة كهربائية قدرتها 100 ميجا وات، ولأن مصر تتبنى جميع الدول الإفريقية، وهى مستعدة للدفاع عن أى دولة بما فيها إثيوبيا وقت الضرورة، ونظرًا لحقوق مصر التاريخية ومواد الاتفاقيات بشأن النيل العظيم؛ نطالبكم بوقف جميع الأعمال فورًا على مجرى النهر الذى يجرى فى دماء المصريين، ويعتبر تهديده هجومًا على حياتهم مما سيستدعى تحركًا مصريًا غير مسبوق فى التاريخ؛ ينهمر على إثيوبيا جحافل من الخليج إلى المحيط.
وبعدما تأكد الإمبراطور المارق من جدية الخطاب، وشخصية كاتبه من الرئيس الأمريكي “أيزنهاور” عن طريق سفير أمريكا في بلاده، رضخ للأمر، وأكد لوزير خارجيتنا أن ارتفاع السد سيصبح 11.5 متر فقط بدلا من 122.5، وأن إثيوبيا ستكتفى بتوليد طاقة قدرها 11.5 ميجا وات بدلا من 100 ميجا وات من المشروع، وتسلم “فوزى” تعهدًا من الامبراطور بهذا الأمر؛ إضافة إلى تشييد السد المشئوم على شاطئ نهر النيل بنفس المنطقة، وليس على مجرى النهر مباشرة.
ويُحسب لـ “ناصر” منذ توليه حُكم مصر رسميا في 23 يونيه 1956؛ وحتى وفاته في 28 سبتمبر 1970 عرقلتة للحلم الإثيو- صهيوني ببناء أي سدود تضر بمصر، وهو الأمر الذي جعل “سيلاسي” يكيد لـ “ناصر” عندما أعلن تضامنه وتعاونه مجددا مع كل من: إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية والغرب؛ خاصة بريطانيا التي قبلته كلاجئ عندما نفته إيطاليا من وطنه.
كما عُرف عن “سيلاسي” أيضا تمويله لعمليات مؤسسة الاستخبارات والمهام الخاصة للموساد الإسرائيلي فى إفريقيا نكاية في موقف “ناصر” – المؤيد حينئذ – للمعسكر الشرقى، والاتحاد السوفيتى، ولأن الإمبراطور المارق؛ كان يهدد المصالح السوفييتية العليا فى إفريقيا ودول أعالى النيل، فجاء الرد السوفيتي مُعلنا وباتا وحاسما في تمويل “السد العالى” ماديًا فى يونيو 1956 بمبلغ 1.12 مليار دولار أمريكى، وبفائدة قدرها 2%؛ في خطوة تصعيدية من الجانب الروسي ضد أمريكا وعميلها “سيلاسي”.
واتساقا مع ما سبق، ولأن حُكام إثيوبيا منذ زمن بعيد وحتى اليوم يتم اختيارهم على هوى ورغبة القوى العالمية الخفية ( الماسونية)؛ فقد انتهز حُكامها ظروفًا سياسية مصرية وعالمية خاصة وحرجة ومتعددة لإخراج العديد من مشروعات سدودهم بالاتفاق مع عدونا اللدود ( إسرائيل )؛ بداية من انشغالنا بحرب أكتوبر المجيدة 1973؛ مرورا بانهماكنا في الأحداث العالمية وما تلاها مثل أحداث 11 سبتمبر 2001، وختاما بما شهدته مصر والمنطقة العربية ككل من تغيرات متسارعة وضاربة؛ كان ختامها ما عُرف بثورات “الربيع العربي”، إذ قامت أديس أبابا من وراء ظهر الرئيس الراحل “السادات” والرئيس الأسبق “مبارك” ببناء سد “فينشا” عام 1973 بارتفاع 25 مترًا أولا؛ ثم سد “أويرو” عام 1995، ثانيا، وبعد ذلك تم توسيع سد “تيس أباى” عام 2001، ثم بناء سد إضافى بجانبه حمل اسم “تيس أباى 2 ” ومضاعفة قوته إلى 73 ميجا وات.
وجميعها اجراءات إثيو – صهيونية تعسفية ومتعمدة على ما يبدو لتدهور العلاقات مع مصر، ولولا وقوف “السادات” و”مبارك” خلال فترة حكمهما للأطماع الإثيوبية المتزايدة بدعم أمريكي وإسرائيلي مفضوح؛ لكانت إثيوبيا قد انتهت من تشييد عشرات السدود وليس سد النهضة فقط، وقد سبق وأشرت لذلك ضمن تحقيق لي مطول بجرتدتي “الدستور” عن جريمة اغتيال “مبارك” في أديس أبابا إستنادا إلى كتاب “العنكبوت” للمؤلف السوداني فتحي الضو، والذي كشف فيه عن اشتراك نظام الرئيس السوداني الإخواني المخلوع عمر البشير في العملية الفاشلة لاغتيال “مبارك” بالاتفاق مع عناصر “الإرهابية”.
وبحسب خبراء المياه والري؛ إضافة إلى بعض التقارير الاستخبارات العالمية، ومنها بالطبع تقارير الأجهزة الأمريكية، فإن الأنظمة الإثيوبية المتعاقبة ضربت بكل الأعراف والقوانين الدولية عرض الحائط بخصوص ملف المياه منذ زمن بعيد وليس الآن، عندما خدرت العالم وشوهت الحقيقة وكشفت عن سوء نيتها المبيتة تجاه مصر بعد بنائها 19 سدًا مائيًا؛ معظمها لـ”توليد الكهرباء” كما تدعي، منها خمسة سدود على مجرى نهر النيل مباشرة!!، وليت الأمر قد وقف عند هذا الحد؛ بل تعداه إلى درجة التحدي الوقح لدولتي المصب ( مصر والسودان ) في الوقت الحالي بنيتها لتشييد ثلاثة سدود أخرى بعد انتهائها من “سد النهضة”، ولم لا وقد تابع جميعنا صلف وعنجهية وغرور أحد مسئولي إثيوبيا وهو يقول: المياه مياهنا.. والأرض أرضنا.. وتمويل السد من أموالنا و…”.
وفي خطوة تحول سياسي نحو عدو الأمس وصديق اليوم، استطاعت الأنظمة الإثيوبية مؤخرا أن تتعاون مع إيطاليا في إسناد مشروعات سدودها المشار إليها إلى مجموعة “Salini Impregilo ” الإيطالية الدولية، وهي مجموعة عملاقة ومسجلة في بورصة الأوراق المالية الإيطالية بمدينة ميلانو كشركة متخصصة فى هندسة التصميمات والإنشاءات المدنية؛ كما قامت الرئاسة الإيطالية بتقليد رئيس مجلس إدارة تلك المجموعة قلادة “الفروسية عن دوره البارز فى تنمية وتقديم الشركات الإيطالية المتخصصة عالميًا.
لكل ما سبق، وما سيترتب على إصرار النظام الإثيوبي الإضرار بمستقبل الشعب المصري المائي؛ فمن الضروري أن نرجع إلى تاريخنا المشترك مع السوفيت والإيطاليين بخصوص هذا الملف؛ بعيدا عن دور الأمريكان التآمري والمنحاز للأنظمة الإثيوبية ضد مصر، هذا أولاً، وثانيا يجب تصعيد موقفنا إلى حد الإعلان الرسمي عن تفجير سد النهضة، كما تعامل أبطالنا مع المدمرة الإسرائيلية إيلات، وليس سد النهضة فحسب، بل وأي سد من السدود الثلاثة المتفق علي إنشائها بين إثيوبيا والمجموعة الإيطالية “Salini Impregilo “، وكذلك السدود الأخرى التي تنوي إثيوبيا إنشاءها فيما بعد؛ عملا بكلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي: نحن مع تنمية إثيوبيا، ولكن ليس على حساب شعبنا؛ فإذا كانت المياه بالنسبة لهم تنمية، فهي بالنسبة لنا مسألة حياة أو موت”،
وتحيا مصر مليار مرة، ويسقط الأعداء مهما كانت قوتهم ومن يقف خلفهم..