يبدو أن السؤال الذى طرحناه فى الأسبوع الماضى حول من فى مقدوره أن يكسب رهان السباق فى امتلاك الزعامة العالمية مازال سابقاً لأوانه على الأقل داخل الولايات المتحدة، فهناك إدراك قوى لدى المؤسسة الأمريكية الحاكمة بتحول كل من الصين وروسيا إلى خطرين وتهديدين كبيرين للزعامة الأمريكية العالمية، لكن لا يوجد توافق كامل على مسألتين مهمتين بهذا الخصوص، الأولى ما إذا كانت الولايات المتحدة يمكن أن تخسر سباق الزعامة العالمية فى مواجهة الصين، أو حتى فى مواجهة تحالف محتمل صيني- روسى هدفه فرض نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب، بما يعنيه ذلك من نزول الولايات المتحدة عن قمة النظام العالمى لصالح نظام آخر جديد. هناك انقسام أمريكى فى هذا الأمر بين من يؤكد الأفول الأمريكى ويتحدث عن تراجع أمريكى حقيقى فى مواجهة صعود القوة الاقتصادية العسكرية التكنولوجية الصينية، والعودة الصاعدة للقوة العسكرية الروسية، وبين من يؤكد أن كل هذا الصعود، رغم جديته، ليس فى مقدوره أن يزيح الولايات المتحدة عن الزعامة العالمية، ولديه أسبابه الكثيرة التى يراها مؤيدة لذلك. أما المسألة الخلافية الثانية فتتعلق بآليات المواجهة الأمريكية مع الصين وروسيا، هل هى الاحتواء لهاتين القوتين، أم بالمواجهة الصريحة بكل ما يعنيه ذلك من خطر لعودة أجواء الحرب الباردة، التي، إن عادت هذه المرة، فستكون خسائرها أفدح عشرات، وربما مئات المرات، عن الحرب الباردة السابقة التى تفجرت فى منتصف القرن الماضى بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى عقب انتهاء الحرب العالمية الثاني. هذا الانقسام الأمريكى حول هاتين المسألتين المحوريتين تعبر عنه حالياً مدرستان مميزتان فى الولايات المتحدة الأمريكية، الأولى تبقى محصورة فى أوساط كبار المفكرين والخبراء الذين هم الآن خارج المؤسسة الحاكمة فى الولايات المتحدة، أما الثانية فهى الأهم لأنها تعبر عن المؤسسة الحاكمة سواء فى البيت الأبيض أو فى الكونجرس الأمريكي، فى ظل توافق نادر بين من هم جمهوريون ومن هم ديمقراطيون فى مؤسسة الحكم الأمريكية. هناك الكثيرون من كبار المفكرين الأمريكيين الذين يتصدرون الدعوة إلى تجنب سياسة المواجهة مع الصين وروسيا، وتحاشى خطر إعادة تفجر حرب باردة عالمية جديدة ويمكننا الإشارة هنا إلى أبرز اثنين منهم الأول هو من يمكن تسميته «شيخ الدبلوماسية الأمريكية الحديثة» وأعنى الدكتور هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأسبق الذى سبق له هندسة التقارب الأمريكى مع الصين فى عقد السبعينيات من القرن الماضى لمواجهة الاتحاد السوفيتي، ثم قام بهندسة احتواء الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو وتزعم الدعوة إلى «الانفراد الدولي».
كيسنجر الذى بلغ من العمر الآن 98 عاماً بادر بدعوة الإدارة الأمريكية إلى أن «عليها أن تسارع بالتوصل إلى تفاهم مع الصين حول نظام عالمى جديد لضمان استقرار العلاقات بين الجانبين وتجنب مواجهة عسكرية عالمية، ومنع حدوث فوضي». فعبر تقنية «زووم» فى ندوة المعهد الملكى للشئون الدولية فى لندن «تشاتم هاوس» حذر كيسنجر من أن «العالم سيواجه فترة خطيرة مثل تلك التى سبقت الحرب العالمية الأولى مع فارق أساسى هو امتلاك المعسكرين الغربى والصينى أسلحة تكنولوجية متقدمة جداً (أسلحة نووية استراتيجية) قد تستخدم فى أى مواجهة». المفكر الثانى الذى يتزعم تيار التسوية وخفض التوتر الأمريكى مع الصين وروسيا هو جوزيف سي. ناى ، الذى حظر الطرفين الصينى – الروسى والأمريكى من سوء التقدير ومن الحسابات الخاطئة سواء فيما يخص مصادر ونوعية مصادر القوة عند الطرف الآخر، أو ما يخص نوايا الطرف الآخر وأنماط إدراكاته ، لكنه استرسل فى التحذير من أن التاريخ حافل بحالات سوء الفهم حول موازين القوى المتغيرة، وحذر الأمريكيين من المبالغة فى تقدير القوة الصينية أو العكس أى المبالغة فى تقدير القوة الأمريكية والتقليل من القوة الصينية والروسية، أى أنه ليس مع التسارع فى حسم الإجابة عن من سيسيطر على العالم فى القرن الحادى والعشرين للاهتمام بما هو أهم وهو شكل القرن الحادى والعشرين وكيف يمكن جعله قرناً للتعاون بدلاً من أن يكون قرناً للصراع لفداحة خطر »خيار الصراع«. المدرسة الثانية لا تعير هذه التحذيرات اهتماما، وهى بكل أسف تعبر عن المؤسسة الحاكمة، وتعطى كل الأولوية للقوة الأمريكية وللتدابير اللازمة لتقزيم كل من القوة الصينية والروسية والحيلولة دون اضطرار الولايات المتحدة لقبول نظام عالمى متعدد الأقطاب لا تسيطر عليه الولايات المتحدة .
هذا الفهم سيطر على إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب ويسيطر الآن على إدارة الرئيس جو بايدن ، على غرار دعوة مايك بومبيو وزير الخارجية السابق فى إدارة دونالد ترامب إلى العمل من أجل »انتصار العالم الحر على الطغيان الصينى الجديد«. ولا نجد اختلافاً عن هذا الخط الساخن للمواجهة الأمريكية ضد الصين، وأيضاً ضد روسيا، عند خليفته انتونى بلينكن، الذى ينسق مع زميله السابق فى الدبلوماسية الأمريكية ويليام بيرنز الذى يترأس الآن المخابرات المركزية الأمريكية «سي. أي. إيه»، فى سبل الانتصار الساحق على الصين وروسيا. فإذا كان بلينكن قد صعَّد فى أول لقاء رسمى مع قادة الدبلوماسية الصينية فى اجتماع مدينة انكوراج بولاية ألاسكا الأمريكية (18- 19/3/2021) ضد الصين لدرجة القول بأن «تصرفات الصين تهدد الاستقرار العالمي»، فإن إدارة بايدن تجاوزت اجتماع ألاسكا وتبعته بزيارة وزير الخارجية انتونى بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن الحليفين الاستراتيجيين لواشنطن فى جنوب شرق آسيا: اليابان وكوريا الجنوبية وزيارة عاجلة قام بها لويد أوستن للهند، ضمن المسعى الأمريكى لتكتيل الحلفاء ضد الصين، ثم وصف الرئيس جو بايدن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بـ «القاتل» والسعى لتحميل الصين مسئولية انتشار «وباء كورونا». وجاءت «وثيقة الدليل الاستراتيجى المؤقت للأمن القومي» الصادرة حديثاً عن البيت الأبيض لترفع من مستوى التحدى مع الصين إلى «أكبر اختبار استراتيجى تواجهه الولايات المتحدة فى القرن الحادى والعشرين». هذا يعنى أن القضية لم تعد فقط من يسبق الآخر الصين أم الولايات المتحدة فى السيطرة على القرن الحادى والعشرين بل أضحت أيضاً كيف يدرك كل طرف الطرف الآخر وكيف يصوغ سياساته: مواجهة أم احتواء وضبط للتوتر ..