وردت خاطرة الى ذهني انني طوال مشواري الاعلامي في الأخبار بماسبيرو وتليفزيون مسقط ثم تليفزيون دبي مدة تقترب من اربعين عاما بل منذ ان كنت مذيعا صغيرا ومحررا وكبير مذيعين ورئيسا لقطاع الأخبار افرق دائما بين رأيي السياسي وآدائي الاعلامي وربما كان هذا احد اسباب نجاحي بحمد الله في معالجة أزمات كثيرة خاصة خلال تولي جماعة الاخوان الحكم في مصر !
واتصور انه من الطبيعي ان الذي يتصدى لعملية صنع الرسالة الاعلامية من الضروري ان يكون واعيا للمتغيرات السياسية ومستوعبا لمسار الاحداث الجارية وليس مطلوبا منه عرض او فرض رايه الشخصي أو توجهه السياسي !
وما جعلني اتعاطى بعمق مع هذه الخاطرة تلك الأزمة السياسية التي رشحت على سطح الاحداث مؤخرا بين لبنان والمملكة العربية السعودية ودول خليجية اخرى والتي خطفت الانظار واستحوذت على اهتمام المراقبين الاسبوع الماضي .
ونقول ان سبب الازمة تصريحات ادلى بها وزير الاعلام اللبناني جورج قرداحي قبل ان يتم اختياره وزيرا تتعلق براي سياسي حول الموقف في اليمن ورؤية شخصية لقرداحي بخصوص جماعة الحوثي
وارتأت السعودية ان ما تفوه به الاعلامي اللبناني يعتبر خطابا معاديا لتوجهاتها وموقفها تجاه الحالة اليمنية .
واطرح بعض التساؤلات لمحاولة البحث عن تفسير منطقي لماحدث … أين هو موطن الخطأ ؟
هل في تصريحات الوزير ؟ ام في تضخيم و تقويل ما قاله ؟
ام ان تصريحات الوزير لم تكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير لتظهر امورا على السطح كان مسكوتا عنها أو مؤجلا الحديث عنها ؟
ام ان ملف العلاقات اللبنانية السعودية اصبح مليئا بالقضايا الشائكة التي فجرت النار من تحت الرماد ؟ .
بداية نقول يعد ماحدث سابقة نادره في العلاقات بين الدول بمعنى ان تحاسب دولة مسئولين في دولة اخرى على تصريحات أو وجهات نظر قالوها من قبل بأثر رجعي هو امر غير معتاد إلا اذا كان هناك طرف من مصلحته افتعال الازمة !
وفي حالة المشكلة القرداحية يبدو ظلال حزب الله ماثلا في افقها حتى ولو كان بشكل غير مباشر
غير ان الطرف السعودي تحدث بصراحة وقال ان وكلاء إيران في لبنان سبب أزمات العلاقات بين البلدين !
و تتضح الصورة اكثر عندما نعلم ان حزب الله داعم معنوي لا يستهان به للوزير اللبناني .
وعلى اي حال ارى في جورج قرداحي من الناحية المهنية مقدم برامج وصحفيا مثقفا موسوعيا و ايضا يحسن اختيار مفرداته بديبلوماسية شديده وقد حقق شهرة واسعة من خلال برنامج المسابقات التليفزيوني الاشهر ( من سيربح المليون ! )
وبالرغم من انه مسيحيا مارونيا إلا أنه مسلم الهوى أو على حد قوله يعشق الإسلام ويحفظ كثيرا من القران الكريم ويجيد القاء الشعر العربي ويتحدث اللغة العربية الفصحى بطلاقة ورشاقة !
هذا انطباعي عنه وبالتالي كان غريبا ان يتحول الرجل من اعلامي الى سياسي في لحظة ما عندما سئل عن السياسة السعودية في اليمن وهو يعلم جيدا حساسية هذا الملف وإن كثيرا من الدول وليس الافراد فقط يتجنب الخوض فيه لمنع الحرج أو حرصا على مشاعر الاشقاء
ورغم اقتناعي بان تصريحات قرداحي التي لم تحدث اي صدى في حينها هي صورة من صور حرية التعبير التي تكفل حق الصحفي في عرض وجهة نظره خارج وسيلته الاعلامية لانه داخل وسيلته هو ملتزم بسياستها التحريرية التي لا تعكس بالضرورة توجهاته أو اقتناعاته السياسية !
واعتقد ان الامر يختلف اذا تولى القائل منصبا سياسيا كل كلمة محسوبة بميزان الذهب !
فقد كان ضيفا على برنامج برلمان الشباب واذيع على الموقع الاليكتروني للبرنامج ولم يشعر به احد انذاك لكن الدنيا قامت ولم تقعد عندما اعيد بثه وكان سببا في تفجر الازمة !
على اي حال لست ادري هل من حسن حظه أو من سوء حظه ان يتم اختياره وزيرا للإعلام في حكومة نجيب ميقاتي التي لم يمر على تشكيلها سوى اقل من 60 يوما حتى يضاف الى اجندتها ملف أزمة جديدة لم تكن في الحسبان !
وارى انه من سوء حظه فعلا ان يتم توظيف هذه التصريحات على نحو يشير بصراحة الى ان احدهم ايا كان من هو أستخدم وسيلة البحث في دفاتره القديمة للايقاع ليس فقط بقرداحي ولكن بلبنان ايضا ! .
ان هذا هو الاقرب للمنطق وكشف حقيقة ان هناك من يريد افشال اي تقارب بين السعودية والدولة اللبنانية وهو التقارب الذي عبر عنه ويسعى إليه نجيب ميقاتي منذ اليوم الأول لتوليه رئاسة الحكومة !
وفي اعتقادي ان نسف العلاقات بين الدولتين كان الهدف من أزمة جورج قرداحي بل دعونا نقول انه الخبر اليقين لفهم ابعاد الازمة !
وكما اسلفنا ان حزب الله الذي يدعم قرداحي – وهو امر لاشك فيه – يمثل عامل قلق لمتخذ القرار السعودي
ومن المعروف ان حزب الله ونصر الله واتباعه العدو الاول للسعودية في لبنان وترى الرياض في حزب الله عقبة امام عودة العلاقات الى طبيعتها بين الدولتين ويؤثر على سير المحادثات التي تجري في هدوء لتطبيع العلاقات بين المملكة وإيران !
وقد عبر عن ذلك صراحة الأمير فيصل بن فرحان ال سعود وزير خارجية السعودية في اكثر من تصريح .
ومن هنا كان امرا طبيعيا ان تاخذ السعودية والبحرين والكويت والإمارات موقفا موحدا صادما ضد لبنان .
واتصور ان الاسوأ في توابع الازمة من تأثر الاقتصاد اللبناني المتداعي أصلا حيث وصل سعر صرف الدولار الأمريكي في بيروت الى 21 الف ليرة!
هذا الواقع عبر عنه بيان صدر عن الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط ناشد فيه المسؤولين في دول الخليج بتدبر الإجراءات المطروح اتخاذها في خضم ذلك الموقف بما يتفادى المزيد من التأثيرات السلبية على الاقتصاد اللبناني !
وكان البيان مفاجأة و يعتبر خطوة غير مسبوقة تحسب للجامعة العربية التي غالبا ما تقف دائما في صف المملكة العربية السعودية الممول الاول لميزانية الجامعة !
خلاصة القول ….
إن أزمة العلاقات اللبنانية الخليجية تشخص الحالة المَرضية للعلاقات العربية العربية فمازال التعامل بمنطق الدونية يشكل سلوكا سائدا وكشفت الازمة ايضا ان الحديث عما يسمى مساحة مشتركة من المصالح القومية وما يعتبر ظهيرا يساند طموحات الشعوب ويخفف من همومها ليس سوى
(اضغاث أحلام ) اذا جاز التعبير !
وعليه فإن التعامل بواقعية مع المعطيات على الأرض اصبح هو نهج اي مقاربة تحاول رصد المشهد العربي هذه الأيام وهو ما لاحظناه بعد لجوء اطراف الازمة للصمت المشوب بالغضب لدى طرف والمشوب بالترقب لدى الطرف الاخر عموما لعل التهدئة تساعد على نزع فتيل الازمة اعلاميا وتبقى معالجتها بهدوء ديبلوماسيا امرا ملحا !
ا