إن معظم الاتفاقات التي تحصل بين الدول الكبرى تبقى سرّية لسنوات، وما يخرج إلى العلن من اجتماعات القادة الكبار، لا يتجاوز 5% مما يدور في الكواليس. وفي الاجتماع الأخير في موسكو بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون، طلب بوتين خروج الجميع حتى المُترجمين.
رغم عدم حصول اجتياح روسي لأوكرانيا في الموعد الذي حدده سابقاً الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 16 شباط الجاري، ما زال يؤكّد اليوم مع وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أن روسيا ستغزو كييف في الأيام القادمة، ويُكرّر تلك التصريحات، رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون ووزيرة خارجيته إليزابيت تراس، ويترافق ذلك مع حملة إعلامية غير مسبوقة، جعلت العالم كله يقف على قدم واحدة وكأنّه على شفير حرب عالمية ثالثة.
من حيث الشكل فإن قراراً واحداً من بايدن والزعماء الغربيين كفيلٌ بسحب فتيل التوتر وإنهاء هذا الغليان، الذي يجتاح أوروبا والعالم، وهو تقديم تعهّد لروسيا بِعدم إدخال أوكرانيا إلى حلف الناتو، لكن بايدن الرجل الثمانيني، المُثقل بإرث الحرب الباردة، لم يفعل ذلك، فهو لا يريد رؤية روسيا تستعيد أمجاد الاتحاد السوفياتي، بل هو لا يطيق رؤية أي دولة تنافسه على زعامة العالم، حتى ولو كانت صديقة كالاتحاد الأوروبي، الذي تمكّنت أمريكا مؤخّراً من زعزعته وإخراج بريطانيا منه.
أما الزعماء الآخرون في أوروبا والعالم فهم يعلمون أن القرار ليس بيدهم، لذا يكتفون بكلام عام أو يلوذون بالصمت، ويترقّبون ما سيُسفر عنه الكباش الروسي الأمريكي.
في الحقيقة لا يهتم الأمريكيون بمصالح أوكرانيا، ولا بحماية الديمقراطية فيها، كما يُشيعون في وسائل إعلامهم. وبالأمس القريب كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يوجّه انتقادات واسعة وحادّة للنظام في كييف، ويتهمه بالفساد. أما بايدن الذي طالب بحرّية المعارض الروسي ألكسي نفالني، فقد تغاضى عن؛ زج المعارضين للنظام الأوكراني الحالي في السجون، وإسكاتهم، وإغلاق كافة المحطات الإذاعية والتلفزيونية، والمواقع الإعلامية المعارضة في كييف.
طبعاً ليست رفاهية الشعب الأوكراني وحريته أو الديمقراطية هناك هي ما يشغل بال الرئيس الأمريكي جو بايدن، ومن السذاجة اعتقاد ذلك، بل هو يسعى لتحقيق الأهداف التالية:
أولاً- عزل روسيا وفرض عقوبات اقتصادية قاسية عليها، وهو يبحث عن أي ذريعة للقيام بذلك، ويريد أن يشترك معه في هذا الأمر أكبر عدد ممكن من الدول، خاصة الأوروبية. وهو يأمل من خلال ذلك جعل الشعب الروسي يعاني أزمة معيشية حادّة، تجعله ينقلب على الرئيس بوتين، ويُكرّر ما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق من انهيار وتفكك، أو على الأقل يجعل روسيا عاجزة عن تمويل برامجها، في تطوير الصناعات الحربية، والبُنى التحتية، وعاجزة عن المنافسة الاقتصادية.
ثانياً- وضع حاجز فعلي بين أوروبا وروسيا، ومنع تطوير العلاقات الاقتصادية بينهما، خاصة مع المانيا، التي باتت تُشاكس وترفض الانصياع للإملاءات الأمريكية، وما خط السيل الشمالي للغاز (نورد ستريم-2) سوى شاهد على هذا الخلاف الأمريكي الألماني.
ثالثاً- إعادة إحكام السيطرة الأمريكية على دول حلف الناتو، الذي كان في الأونة الأخيرة مهدداً بالتفكك والانقسام، وطبعاً تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية إلى إيجاد خطر فعلي يهدد الأمن الأوروبي، ولا شيء أفضل من دفع روسيا إلى التورط في حرب مع الدول المجاورة لها، والحلقة الأضعف في ذلك هي أوكرانيا، كونها ليست من أعضاء حلف الناتو .
رابعاً- جني أرباح مالية هائلة، عبر احتكار توريد الأسلحة والغاز والنفط والصناعات المتطوّرة، خاصة الإلكترونية. وأفضل ما يخدم هذا الهدف، هو عودة التشنّج الدولي، وأجواء الحرب الباردة، فبينما يضمّ الناتو 37 دولة، تتشكّل مجموعة الأمن الجماعي من ست دول فقط، وهذا يجعل الكفة راجحة لصالح الولايات المتحدة الأمريكية طبعاً.
يُريد الغرب دفع روسيا للتّورط بالحرب مع أوكرانيا، ولهذا السبب يقوم بتشجيع نظام كييف على مهاجمة المناطق التي أعلنت انفصالها في الدومباس، ولهذا السبب أيضاً تم إفشال اجتماع النورماندي الأخير، ورفضت أوكرانيا تنفيذ ما كان قد تم الاتفاق عليه سابقاً في العاصمة البيلاروسية مينسك.
تسعى أوكرانيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، باعتبار أن ذلك سيفتح أمامها الباب لتحقيق مكاسب اقتصادية. وطبعاً هذا يمثّل حقاً مشروعاً للشعب الأوكراني، وكذلك خيار الانضمام إلى حلف الناتو، أو غيره، فهو حق لأي دولة مستقلة، لا جِدال فيه، وفقاً للمعاهدات والمواثيق الدولية.
لكن في المقابل يسأل الروس لماذا يحق للولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، وضع صواريخ نووية في دول مجاورة لروسيا، في حين كادوا أن يُشعلوا حرباً عالمية، عندما قرر الاتحاد السوفياتي عام ١٩٦٢ وضع صواريخه في كوبا؟ وهل توافق أمريكا اليوم على نصب صواريخ روسية، في كوبا أو فنزويلا أو المكسيك مثلاً؟
يعترف القادة الأوروبيون بأن لدى روسيا هواجس أمنية مشروعة، لكنهم لا يجاهرون بمعارضة التوجهات الأمريكية، لأنهم يخشون عواقب موقف كهذا، والذي قد يجعل أي شيء يحدث، يتم على حسابهم، فهم لهم تأثيرهم على القرار، لكن هذه القرارات ليست ملكهم، فوحده الراعي الأمريكي يملك هذا الحق.
الاتفاق الروسي الأمريكي
صرّح مصدر غربي رفيع ل “الثائر” فقال: أن كل ما يجري الآن لن يؤدي إلى حرب شاملة، وهناك اتفاق سري على تقاسم النفوذ، تمَّ منذ مُدة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية. وأضاف المصدر أن أوروبا ضعيفة ومنقسمة على نفسها، ولذلك بقيت خارج الاتفاق، وهي ستكون أحد الخاسرين، وستتضرّر علاقاتها مع روسيا كثيراً، وستكون مُجبرة على العودة إلى بيت الطاعة للراعي الأمريكي.
أما الخاسر الأكبر من الاتفاق الروسي الأمريكي، فهما أوكرانيا واليمن، اللذان سيتم تقسيمهما. فالأمريكي أصبح فجأةً مستعجلاً على إنهاء الصراع في اليمن، وقد رأينا التحوّل الأخير في سير المعارك هناك، وتدخّل الطيران الأمريكي والفرنسي بشكل مباشر في الحرب. ووفقاً للمصدر: فإن الحل في اليمن بات قريباً، وسيُفضي إلى إعادة تقسيم اليمن، وسيتم إجبار الحوثيين على القبول بالتسوية، وتأمين طريق ناقلات النفط عبر باب المندب إلى أوروبا.
ليس بعيداً عن ذلك، ستكون خطة انجاز العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران في الأسابيع القادمة، التي سيتم إرضاؤهم ببعض الجوائز . ووفق المصدر، قد يكون لبنان جزءاً من الحصّة الإيرانية، مع دور أقل لها في سوريا، التي ستكون من حصة روسيا، والعراق الذي هو من حصة أمريكا، وسيُخلي الأمريكيون مناطق الشمال السوري، التي ستعود إلى كنف الدولة السورية، لكن بحكم ذاتي كما هو الأمر بالنسبة للمناطق الكردية في العراق، على أن تبقى مرتبطة اقتصادياً بالأميركيين، أما أدلب السورية فستكون أشبه بغزّة جديدة، ولن تتنازل تركيا عن نفوذها هناك.
ويتابع المصدر : ستكون أوكرانيا ضحية الاتفاق، فالاميركيون لا يريدون ضمّها إلى حلف الناتو، ودون ذلك عقبات، خاصة الشرط المتعلّق بعدم وجود نزاعات حدودية، لدى الدولة الراغبة بالدخول إلى الحلف. وأما الأسلحة التي يتم تقديمها لأوكرانيا الآن، فهي من باب المجاملة، والكل يعلم أنّها غير كافية لصد هجوم للجيش الروسي، الذي يملك تفوقاً نوعياً هائلاً في كافة المجالات، خاصة في مجال الطيران الذي تفتقده أوكرانيا. ويعتقد بعض الخبراء العسكريون، أن الجيش الأوكراني لن يقاتل على الجبهات في حال حصول غزو روسي، وسيُفضّل الاستسلام على أن يتعرّض لخسائر جسيمة، وعملية تدمير شاملة وكبيرة، قد تُطيح بكامل قدراته القتالية.
ولا ترغب أوروبا بإدخال أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، لعدّة أسباب، وما زال الأوروبيون يضعون شروطاً عديدة على أوكرانيا، قبل مناقشة قبول عضويتها في الاتحاد.
ما تم رسمه لأوكرانيا لا يخدم مصالح الشعب الأوكراني، فالتقسيم بات أمراً واقعاً، وينتظر فقط رسم الحدود الجديدة، فالمناطق التي أعلنت انفصالها، ستبقى تحت الحماية الروسية، ولن يُسمح لأوكرانيا بأعادة ضمّها. أما الغرب الذي أعلن عدم استعداده لدخول الحرب هناك، فقد يلجأ قريباً إلى اتخاذ ذريعة، لفرض العقوبات على روسيا، حتى دون أن تقوم بغزو أوكرانيا، وهذا سيدفع وفق التقديرات الغربية، بالرئيس بوتين، إلى تنفيذ احتلال جزئي لمناطق شرق أوكرانيا، من مدينة خاركوف شمالاً حتى دنبّر وماريوبل جنوباً، ليتم الاتصال مع شبه جزيرة القرم. وهكذا سيتم تقاسم أوكرانيا بين روسيا والغرب، كما حدث في المانيا عام ١٩٤٥.
ويختم المصدر بأن العقوبات الغربية على روسيا ستضرُّ حتماً بالشعب الروسي، لكن بوتين يعتقد أنه سيتم تجاوزها والتراجع عنها لاحقاً، بعد الوصول إلى تسوية، تنسحب بموجبها القوات الروسية من شرق أوكرانيا، مقابل الاعتراف بها كدولة مستقلة.
ويتابع المصدر فيقول: الأمريكيون قلقون الآن، ويعتقدون أن الرئيس فلاديمير بوتين بدّل رأيه في الاتفاق معهم، وهو غير راضٍ عن اقتسام أوكرانيا، ويُفضّل الحصول عليها كاملةً، عبر اجتياحها. أو عبر سيناريو آخر يتمثّل بالضغط العسكري والتهويل بالحرب، ودعم انقلاب داخلي، يعيدها إلى أحضان روسيا، وفي هذه الحالة هو لن يُنفّذ عملية غزو شاملة، وسيسعى لتجنيب روسيا العقوبات الأمريكية، ويُريد الابقاء على علاقات جيدة مع الأوروبيين.
وعن انضمام أوكرانيا للناتو يُجيب المصدر : صحيح أن هذا الأمر يُزعج روسيا، لكنّه من الناحية العسكرية ليس مهماً كما يصوّره البعض، وليس له قيمة كبيرة، فالحرب النووية في حال اندلاعها، ستكون شاملة ومدمّرة لمعظم دول أوروبا والعالم، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي لن يكون لأوكرانيا دوراً حاسماً فيها، ثم أن أيهما أقرب إلى موسكو؟ أوكرانيا أم دول البلطيق المنضوية في حلف الناتو؟
لهذه الأسباب فإن الصراع هو اقتصادي بالدرجة الأولى، وفي خدمة المصالح الاستراتيجية للكبار، يتم توظيف الجيوش والأسلحة والإعلام، وتدفع الشعوب ثمن جموح حكامها، ونزواتهم أحياناً، وتبقى الاتفاقات سرّية والتصرفات غامضة لردح طويل من الزمن، ومعظم شعوب العالم غافلة عن حقيقة ما يحدث