متى وكيف ستنتهي هذه المواجهة بين روسيا والغرب، التي تدور رحاها بآلات القتل والفتك والدمار، والتي تُخلّف وراءها كمّاً لا يُحصى من الخسائر والألم والمآسي والدموع، أولاً لشعب أوكرانيا الذي وقع ضحية صلف السياسة وصراع المصالح الدولية، وثانياً لشعب روسيا الذي يُضحي بشبابه في معركة دامية مع من كانوا له بالأمس القريب أخوة وأهل وأشقاء، وثالثاً للشعوب الأوروبية وباقي شعوب العالم، التي باتت تواجه أزمة جنون أسعار النفط والغاز، الذي سينعكس دون شك على كل وسائل العيش ومظاهر الحياة، مذكّراً البشرية بمآسي ما قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية.
المعركة العسكرية
لا يمكن أن تكون الحرب نزهة، خاصةً مع هذا التطور الهائل في مجال الأسلحة وآلات القتل، ورغم تفوّق الجيش الروسي على خصمه الأوكراني، فإن طبيعة ميدان المعركة الشاسع، واكتضاض المدن، والقوة النارية الفتاكة للأسلحة المستعملة من كلا الطرفين، باتت تحصد كل يوم مئات الضحايا، من قتلى وجرحى ومشردين ومحاصرين.
أمس تم إعلان هدنة للممرات الإنسانية لإجلاء السكان، وهذا يُشبه هدوء ما قبل العاصفة، أي أن المعركة الحتمية القادمة، التي ستترافق مع زيادة استخدام العنف والتدمير، قد لا تُبقي ولا تذر .
يسعى الغرب لإطالة أمد هذه الحرب، ليس حباً بالشعب الأوكراني لتحرير بلاده، بل من أجل تكبيد الروس أكبر قدر ممكن من الخسائر وهزيمة بوتين. فأمريكا والدول الأوروبية تُقدّم المال وبعض السلاح لأوكرانيا، وهم يعلمون جيداً أن هذا لن يُعيّر مجرى الحرب، ولن يُبدّل نتائجها المحسومة سلفاً لمصلحة الجيش الروسي، الذي سيكون مضطراً لزيادة قصفه وتدميره للمدن والقرى والمنشآت الأوكرانية كلما واجهته مقاومة أكبر. فلِمصلحة مَن جَعلُ كييف تشبه برلين 1945، أو حتى تحويل أوكرانيا إلى أفغانستان، فهل هذا فعلاً في مصلحة الشعب الأوكراني؟؟؟
خيارات زيلنسكي
لقد أعلن الرئيس زيلنسكي عن خيبته من تخلّي الغرب عن بلاده وتركها إلى قدر محتوم، ولوّح بالقبول بشروط بوتين لتجنيب شعبه وبلده مزيداً من الدمار والخراب. وقد تكون هذه أجرأ خطوة يتّخذها، وأفضل الخيارات أمامه، فما قيمة حكومة المنفى التي يعرضها عليه الغرب، لإدارة حرب استنزاف ضد روسيا، بالوكالة عن الأمريكيين، الذين لم يجرّبوا منذ أمد بعيد مآسي الحرب على أرضهم، فيما يدفعون شعوب العالم إلى آتون النار في معظم أنحاء العالم.
المال والإعلام في مواجهة السلاح والغاز.
جيّش الغرب كل وسائل إعلامه، ودفع مليارات الدولارات منذ عام 2014 ، لتأجيج الصراع الاوكراني الروسي ومشاعر البغضاء والكراهية، بين شعبين جارين ومخطلتين عبر عقود من الزمن، ونجح في وضع نظام موالٍ له في كييف، والآن نجح في جرِّ روسيا وأوكرانيا إلى مستنقع الحرب، ساعياً لمواجهة روسيا بدماء الجنود الأوكرانيين. ومنذ اندلاع المعارك، كان البريطانيون هم الأشرس في إظهار العداء لروسيا، ورأس حربة في المواجهة وفرض عقوبات قاسية جداً وغير مسبوقة على موسكو.
سرعان ما ظهر أن العقوبات على روسيا سيف ذو حدين، وقد يدمّر أوروبا ويُلحق بها أضراراً أكثر بكثير من تلك التي ستصيب روسيا.
لم يكن بوتين نائماً يحلم واستفاق فجأة ليقرر غزو أوكرانيا، بل على العكس كان قد درس خيارته جيداً، ووضع خطة مُحكمة لكل ما يمكن أن يحدث، خاصة العقوبات التي سيفرضها الغرب، فعقد اتفاقات مع الصين والهند وتركيا وايران وغيرها للمبادلة التجارية بالعملة الوطنيةلروسيا وتلك الدول، وحوّل 30% من احتياط روسيا إلى العملة الصينية و20% إلى ذهب، وإذا القينا نظرة على الاقتصاد الروسي، سنعلم أن كفة الميزان ترجح لصالحه، في مواجهة الاتحاد الأوروبي.
ماذا تصدّر روسيا
إن أهم صادرات روسيا هو النفط، فهي تُنتج قرابة 10,5 مليون برميل يومياً، وبلغت العائدات 183,7 مليار دولار للنفط الخام و70,6 مليار دولار للنفط المكرر. يلي ذلك تصدير الغاز، الذي بلغ في السنة الماضية قرابة مئتي مليار متر مكعب، وارتفعت العائدات من 55 مليار دولار عام 2016 إلى حوالي 140 مليار عام 2021، والفحم بلغت عائداته قرابة 18 مليار دولار.
أما باقي الصادرات الروسية فهي بغالبيتها من المعادن؛ كالذهب، والحديد، والألومينيوم، والنحاس، والنيكل، والأسمدة الكيماوية، والمطاط، وغيرها وبلغ حجم هذه الصادرات بحدود 60 مليار دولار، أما القمح فبلغت عائدات تصديره العام الماضي 6,5 مليار دولار .
يستورد الاتحاد الاوروبي 40% من حاجته للغاز من روسيا، وبلغت العام الماضي حوالي 157,6 مليار متر مكعب، وبعض دول أوروبا تعتمد بنسبة 92% على الغاز الروسي، والمانيا مثلاً تستورد 49% من حاجتها من روسيا، وتبيع قسم من الغاز الروسي إلى دول أوروبية أُخرى.
تشغل صناعة الأسلحة الحديثة حيّزاً مهماً من الصادرات الروسية، وبلغت عقود العام الماضي قرابة 70 مليار دولار. وتُشكّل الصين أكبر الزبائن لدى موسكو، خاصة في قطاع النفط والمعادن، ومعظم الصادرات الروسية من المواد الأولية تذهب إليها، وكذلك الهند وبيلاروسيا وكازخستان وكوريا الجنوبية واليابان والدول الأفريقية وجنوب أمريكا .
ماذا تستورد روسيا
يُعدُّ الاتحاد الأوروبي أكبر الشركاء التجاريين لروسيا، ويصدّر إليها ضعف ما يستورد من مصانعه، وأهمها السيارات، والأليات الجرارة، وقطع الغيار، والصناعات الغذائية، والأدوات الكهربائية والإلكترونية، والألبسة، والأدوية، وبلغ اجمالي هذه الواردات للعام الفائت قرابة 179 مليار دولار .
حتى الآن لم يتم إخراج روسيا بشكل كامل من نظام سويفت لتحويل الأموال، كما تم استثناء قطاع الطاقة الروسي من العقوبات، ورغم ذلك تجاوز سعر برميل النفط 140$ ، وقفز الغاز من 960 $ ليتجاوز 4000$ اليوم، وهذا سينعكس غلاءً في أسعار كافة السلع، وقد يسبب شللاً وانكماشاً اقتصادياً غير مسبوق في أوروبا، في حين أن هذا الارتفاع بالأسعار سيُنقذ روسيا التي تضاعفت أرباحها عدة مرات، وسيصبح دخلها من الغاز حوالي 600 مليار دولار سنوياً وفق الأسعار الجديدة .
تفكّر بعض الدول بوقف استيراد النفط الروسي، وقد فعلت كندا ذلك، وستلحق بها الولايات المتحدة الأمريكية، لكن هذه الدول تستورد قسماً بسيطاً من النفط الروسي، وبالتالي لن يكون لوقفه تأثيراً كبيراً لا على روسيا ولا على المستوردين.
من سينتصر
قد ينفذ صبر الرئيس الرئيس بوتين قريباً، ويسمح للجيش باستعمال أسلحة أكثر فتكاً، مما يجعل أوكرانيا تدفع ثمناً باهضاً لخياراتها، بانحيازها إلى جانب الناتو في هذه الحرب، رغم أن ما يقدمه هذا الحلف لأوكرانيا لا يتعدّى بعض الأسلحة البسيطة والمال، والضخ الإعلامي للحفاظ على وتيرة عالية من التشنّج، ودفع الأوكران مع بعض المرتزقة الذين بدأ تجميعهم لخوض حرب عصابات، قد تدمّر أوكرانيا بالكامل.
سيتمكن الجيش الروسي من احتلال أوكرانيا، لكن لن يُشكّل ذلك انتصاراً لروسيا، لأن هذه الحرب ستترك ندوباً ودماءً وجراحاً وآلاماً لا تُنسى بين الشعبين، وربما على العكس ستجعل غالبية الأوكران يبتعدون أكثر عن روسيا، فليس من السهل على الإطلاق أن تفقد أحبتك وبيتك وحياتك الهانئة، وتعود لتصفح وتسامح وكأن شيئاً لم يكن. وقد يكون بوتين خسر أوكرانيا فعلاً ولوقت طويل.
أما في الغرب فبات ترامب يتقدّم على بايدن في استطلاعات الرأي، وراح البعض يصفه بالرئيس الهرم العجوز والضعيف، لأنه بات واضحاً أن الإعلام والعقوبات والصراخ والتصاريح وعبارات الشجب والإدانة لن تجعل بوتين يتراجع عن تحقيق أهدافه، بنزع سلاح أوكرانيا، وفرض شروطه عليها، بل على العكس هذا الكم الهائل الذي وصفه لافروف ب “هستيريا العقوبات” على روسيا، يجعلان الرئيس بوتين مستعداً للمخاطرة أكثر، فالغرب لم يترك له مجالاً للتراجع، ولا حتى لتغيير الاتجاه، بل حشره في مكان ضيّق وراح يضغط عليه أكثر، وعملاً بالمثل القائل «كُثر الضغط يولّد الانفجار» استنفر بوتين سلاحه النووي، ووضعه في وضعية قتالية جاهزة لأي احتمال، فهو مقتنع تماماً بمقولته الشهيرة «ما حاجتنا للعالم إذا كانت روسيا غير موجودة فيه»
أما في أوروبا فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، المقبل على انتخابات قريبة، عجِز عن منع الحرب أو وقفها، وهو مرغم الآن على مجاراة الأمركيين، ولكن تفاقم انعكاسات الأزمة الاقتصادية على بلاده، قد تُفقده الرئاسة. وكذلك الحال مع رئيس الوزراء البريطاني جونسون، الذي سيجد نفسه محاصراً بارتدادات العقوبات على بلاده، والخسائر الهائلة التي سيتعرض لها الاقتصاد البريطاني، والتي قد تجعله يدفع ثمناً لهذه الاندفاعة المتسرّعة، خلف حليفه الأمريكي.
لن يطول أمد الوحدة التي يشهدها حلف الناتو اليوم كثيراً، فحقيقة الصراع وجوهره اقتصادي قبل أن يكون جيوسياسياً أو عسكرياً، وأرباب المال في الغرب، لن يرحموا موظفاً، ولو كان برتبة رئيس، إذا أخطأ الحسابات وعرّض مصالحهم للضرر.
من السذاجة التفكير أن ما يُحكى في الغرب من شعارات وعناوين برّاقة عن؛ نشر الديمقراطية، ومكافحة الإرهاب، وحقوق الانسان، وسيادة الدول، واحترام المؤسسات الدولية والقانون الدولي، هو حقيقة، فأمريكا وحلفاؤها كانوا أوّل من انتهك كل هذه الشعارات، من هيروشيما إلى فيتنام وأفغانستان ويوغسلافيا وفلسطين، وأكثر من خمسين دولة أُخرى في العالم. لقد بات العالم صغيراً جداً، وجيل اليوم لم يعد جاهلاً، ولم يعد بالإمكان خداع الشعوب، مهما تحدثت وسائل الإعلام وروّجت ف «الكذب بات حبله قصيراً» فعلاً
إنها حرب شعواء بدأت في شوارع المدن الأوكرانية، وقد لا تنتهي في شوارع مدن أوروبية، ستشهد صخباً وفوضى عارمين في الأشهر القادمة، بعد أن يصمت هدير الطائرات ودويّ القذائف. وباختصار شديد، إنها حرب تكسير الرؤوس، ولن يكون فيها رابح، فالجميع خاسر، حتى تلك الدول البعيدة عن هذا الصراع ستدفع حصتها من الخسائر في هذه الحرب الكونية، وإن بنسبة متفاوتة بين بلد وآخر .