كمقام صالحٍ في أرض عاد وثمود، ستتفاجأ إذا وجدت صالحاً، بين رجال السياسة وموظفي القطاع العام في لبنان!!! بعد أن باتت الرواتب لا تساوي شيئاً وتفشّت الرشوة والفساد علانية، وبات غالبية الموظفين يطلبونها جهاراً، مقابل إنجاز أي معاملة مهما كانت بسيطة، أمّا المسؤولون السياسيون فهم أصل الفساد ونبع البلاء.
مررنا بقرب دكان الرفيق «أبو صالح» ولا نخفيكم سراً بأننا اردنا أن نتجنب زيارته هذه المرة، فهو رغم كل ما حصل، ما زال مصرّا، أن وباء كورونا كذبة، ويقول: «ما حدا بيموت غير بساعتو» . وحاولنا مِراراً إيضاح وجهة نظرنا له، بأن الأمر لا يتعلق فقط بالحياة والموت، بل إن الفيروس موجود وينتشر، ونقل العدوى وارد في أي لحظة، وحتى من شخص لا تبدو عليه علامات المرض، وقد يتسبب بالألم المبرح لأشخاص آخرين، وأن المستشفيات مليئة بالمرضى، والدواء مفقود، وتكلفة الاستشفاء باتت مرتفعة جداً، ويعجز غالبية الناس عن سدادها.
لكن «أبو صالح» على قناعاته لا يحيد، وعندما يلاقيك، سيعانقك بشوق، ويزرع القبلات على خديك، وتقول زوجته ممازحةً: « ابو صالح ودود جداً، فهو لو رأك وسلم عليك الآن، وعاد ودار من خلف الدكان، ورأك مرة ثانية، سيعانقك ويقبلك من جديد، كما لو أنه لم يرك منذ عام»
في الحقيقة نحن لا ننكر أن هذا الرجل يحمل طيبة لا مثيل لها، والضحكة لا تفارق وجه، وأهل القرية كلهم يعرفونه ويحبونه ويحترمونه كثيراً ، وهو رجل ذكي ويعرف الكثير من الحكايات والنوادر الطريفة والأخبار. واليوم وقف في باب دكانه، وعيناه تراقب الطريق والمارة، كرادار حربي تم تفعيله بأقصى طاقته، ليلتقط أصغر إشارة تحليق أو مرور، ولو من على مسافة عشرات آلاف الأمتار، وهذا يعني أن الرجل لديه خبر هام، يريد إعلانه، ولم يعد يحتمل السكوت عليه أبداً.
ما إن رأنا حتى لوّح لنا بكلتا يديه وكأنه وجد ضالته، التي ما فتيء يبحث عنها منذ وقت طويل، فعرفنا أن في الأمر حكاية ممتعة شيّقة، ولم نشأ أن تفوتنا، فهو لطالما أمتعنا بقصص أهل القرية الطريفة والمعبّرة في آن.
بعد السلام والعناق ومراسم الاستقبال والحفاوة، التي لا يهجرها أبداً، ولم ولن يتخلى عنها يوماً، قال : لقد وجدت صالحاً في لبنان !!!
ويصرّ أبو صالح أن يشرح لنا عن الوضع العام في القرية فيقول: تعلمون طبعاً حال الموظفين، فهم باتوا بغالبيتهم من طبقة الفقراء، لا بل الأكثر فقراً في القرية، فرواتبهم أدنى بكثير من دخل أي تاجر، أو مزارع بسيط. فأنا صحيح تراجعت أرباحي قليلاً، لكن والحمد لله ما زلت أجني ما يكفي من المال، فالسلعة التي كنت أبيعها بالف ليرة، أبيعها الآن بعشرين ألف، وهكذا فإن ربحي تضاعف مرات عديدة، ولم يتأثر عملي بانهيار قيمة الليرة كثيراً، أما الموظف فما زال يتقاضى الراتب ذاته، وهذا يعني أن قيمة راتبه تضاءلت عشرون مرة، وغالبية موظفي القطاع العام أصبحوا فقراء، وأنا ألاحظ ذلك من تراجع مشترياتهم، وغالبيتهم يعجز عن سداد ديونه .
وأكمل أبو صالح : كنت منذ مدة عزمت على تشييد بناء صغير، وقدمت الأوراق والمستندات اللازمة في الدوائر الرسمية، وفي الأمس وبعد طول انتظار جاءني رجل اسمه ربيع . ف. قال أنه من دائرة التنظيم المدني، وأنه مكلّف بالكشف على موقع البناء.
جال الرجل في المكان، ودقّق في كل تفصيل، وأخذ القياسات، وحدد زوايا الأرتفاع والميل وما شابه، وكتب ورسم على محفظته، ثم قال لي لقد أتممت الكشف، وسأكمل العمل الباقي في المنزل.
اعتقدت أن الرجل سيقوم بتأخير معاملتي، وأنا مستعجل للبدء بالعمل، وكوني أعلم حال الموظفين اليوم ورواتبهم التي لا تساوي شيئاً، قررت أن أشكر الرجل، فهو عمل بكل جد وجهد، ولم يضيع دقيقة واحدة، ولم يتوانَ في إنجاز المطلوب حتى أنه بات يتصبب عرقاً، فوضعت مبلغاً من النقود في ظرف، وقلت له: هذا عربون شكرٍ مني لك على تعبك اليوم.
نظر إليَّ الرجل وقال بحزم: أرجع الظرف إلى جيبك أيها المحترم، فأنا رجل أقوم بواجبي ولا أقبل رشوة أو إكرامية من أحد، ولن أُدخل مالاً حراماً إلى بيتي، ولن أطعمه لأولادي.
حاولت تخفيف حدة الموقف وقلت: لكن هذا مبلغ بسيط، وانت كابدت عناء المجيء من مكان بعيد، وثمن الوقود مرتفع، والدولة لم تحسّن لكم الرواتب بعد.
بدا على الرجل الإنزعاج من محاولتي المتكررة، وأراد إفهامي بشكل واضح ونهائي فقال: إسمع يا أخي، أنا أقدّر تعاطفك، لكن محاولتك هذه هي تعني مشاركة في تعميم الفساد، فهل حقاً أنت رجل فاسد؟ هل أنت تلجأ إلى الغش والسرقة في عملك؟ وإذا كنت لا تفعل ذلك، فلماذا تحاول إفساد الآخرين.
علمت عندها أن الرجل جاد في كلامه، فقدّمت له اعتذاري، وأبلغته أنني لم أقصد الإهانة، وأن كل ما في الأمر أنني أردت شكره وحسب.
طبعاً يعرف الرجل حقيقة ما يجري في دوائر الدولة، وهو موظف خَبِرَ العمل فيها لسنوات، ويرى ويسمع جيداً، لكنه صاحب ضمير، ولديه من عزة النفس والكرامة ما يكفي، ليرفض أي رشوة أو إكرامية من أي شخص، ومهما كانت كبيرة أوصغيرة، وحتى في مكان مقفر كهذا، وهو يعلم أن لا أحد من البشر يمكن أن يراه في هذا المكان سوى الله عالم الغيوب، لكن هو لا يخشى أحداً سِوى الله .
ودّعني الرجل وقال: لا تخف ستكون معاملتك ناجزة في الوقت المطلوب، وأنا أريد أن أبقى مطمئن البال، مرتاح الضمير، راضياً ربي بالعمل الصالح والنية الطيبة، وفي هذا كل سعادتي، فأنا أكتفي بما رزقني الله ورا ضٍ بمنزلي المتواضع، ولا أريد قصراً، ولا حاجة لي أبداً بمال حرام، أو أجر غير مستحق.
إنه صالح في لبنان، ولا تتعجبوا !!!! فمثله يوجد أشخاص، ليسوا كثيرين طبعاً، لكن لمثل هذا الرجل أنحني احتراماً، وسأذكر فعله كمأثرة لرجل صادق، أبى أن يبيع ضميره، وسلك مسلكاً شريفاً، في زمن قلّ فيه الشرفاء، وبات قسم كبير من الموظفين، يطلب الرشوة علناً، ودون حياء، أو رادع قانوني أو أخلاقي.
أما دولتنا العَلية فهي تعلم طبعاً بكل ما يحصل في إداراتها، وأرادت على ما يبدو تفعيل نظام السخرة في القطاع العام، وباتت تطلب من الموظفين أن يعملوا براتب لا يكفي لحضورهم إلى مكان عملهم، فيما لو أرادوا الحضور كل يوم.
روى لنا أبو صالح ما في جعبته، ووعدناه نحن بنشر قصته، فرغم أن سلوك هذا الموظف هو أمر طبيعي، في بلد يحكمه العدل والقانون، لكنه في لبنان، وفي هذا الوقت بالذات، حيث بات الفساد صفة عامة، تطغى على الإدارات من رأس الهرم إلى أسفله، فإن وجود هذا الرجل وأمثاله، بات نادراً، كمقام هود وصالحٍ، في أرض عاد وثمود، وهو يستحق كل الاحترام والتقدير، فالحسنة تصبح مضاعفة عندما يُعطي الشخص وهو محتاج، وليس عندما يُنفق من فائض ما لديه، والفضيلة مضاعفة، وصاحبها مُقدّر ومُعتبر أكثر، عندما يكون جُلّ من حوله فاسد ودنيء .