من أهم ما تطرق إليه «إعلان الجزائر» الصادر عن القمة العربية الأخيرة التى استضافتها العاصمة الجزائرية (1-2/11/2022) تلك الدعوة إلى ضرورة مشاركة الدول العربية فى صياغة معالم المنظومة الدولية الجديدة. لكن ما هو أكثر أهمية هو أن البيان حدد معالم هذه المشاركة العربية بأن تكون عربية «كمجموعة منسجمة وموحدة، وكطرف فاعل لا تعوزه الإرادة والإمكانات والكفاءات لتقديم مساهمة فعلية وإيجابية فى هذا المجال». هذه المهمة جاءت منسجمة مع المهمة الأخرى التى سبقتها فى ترتيب المهام فى الإعلان، والتى تحدثنا عنها باستفاضة الأسبوع الفائت وهى «عصرنة» العمل العربى المشترك. فالإعلان أعطى أولوية جديدة ومستحدثة لـ «عروبة» العمل العربى المشترك، وهذا كان يدفع نحو تحريك الوعى الجمعى العربى مجدداً نحو مفاهيم جرى تجاهلها لعقود مضت قسرياً، مثل الاتحاد العربى والوحدة العربية والاندماج العربى والهوية العربية المشتركة، بما يعنى العودة مجدداً بالعمل العربى المشترك إلى هويته العروبية أولاً وصفته الجماعية الوحدوية ثانياً. وانطلاقاً من هذا الإدراك جاءت الخطوة الثانية فى البيان، وهى أن يكون للعمل العربى الوحدوى المشترك أفقه العالمى، أو مهمته العالمية، بأن يكون للعرب، كمجموعة موحدة وليس كدول متنافسة أو متنافرة، دور فى صياغة النظام العالمى الجديد، وألا يكونوا مهمشين كعادتهم، لأن وزنهم الجمعى، أى ككتلة واحدة وقدراتهم البشرية والمادية والجيو- استراتيجية، يؤهلهم لأن يكونوا فاعلين فى صنع المستقبل العالمى . فإعلان الجزائر لم يكتف بالمطالبة بأن يكون للعرب دور فى صنع النظام العالمى المستقبلى بل اشترط أيضاً أن تكون المشاركة ضمن الهوية القومية العربية أولاً، وأن تكون جماعية ثانياً. هذان الشرطان يفرضان العودة مجدداً إلى مفردات ومصطلحات جرى تجاوزها فى العقود الماضية مثل الوطن العربى، والأمة العربية، والعالم العربى. فبكل أسف غرق معظم قطاعات النخب العربية الحاكمة والمثقفة على استخدام مصطلحات بديلة شديدة السوء مثل استبدال مصطلح الوطن العربى بـ «المنطقة العربية» بكل ما تعنيه من تجهيل متعمد للهوية العربية الجامعة للأمة واقتصار العلاقة بين الدول العربية على رابطة الجوار الجغرافى فقط، وكان هذا يهدف إلى تمرير مخطط دمج الكيان الصهيونى فى قلب الوطن العربى بعد نزع هويته القومية العربية وجعله مجرد «جوار جغرافى» . كذلك جرى التسويق للمصطلح المعتمد من الأمم المتحدة وهو «الشرق الأوسط وشمال إفريقيا»، وكأن المستهدف من كل العالم هو الإلغاء الكامل لـ «العروبة». الآن أعاد «إعلان الجزائر» الاعتبار للهوية القومية العربية، وجعلها شرطاً وعنواناً لكل من عمليتى «عصرنة» العمل العربى المشترك من ناحية، ومشاركة العرب فى صياغة وصنع النظام العالمى المستقبلى من ناحية أخرى. والدافع لذلك، ليس فقط مجرد العودة إلى أصولنا كعرب، ولكن أيضاً الوعى بأهم حقائق العصر وهى أن المستقبل للكيانات الكبرى والكتل السياسية- الاقتصادية. فالنظام العالمى الجديد لن يكون كما كان النظام ثنائى القطبية السابق. ففى النظام ثنائى القطبية كانت هيكلية النظام العالمى قائمة على أساس قيادة القطبين: الرأسمالى الذى تقوده الولايات المتحدة، والاشتراكى الذى يقوده الاتحاد السوفيتى. وكانت وحدات هذا النظام هى «الدول» وكانت العلاقة مباشرة بين قيادة النظام العالمى الثنائية وبين وحداته (أى الدول) علاقة مباشرة دون أطر وسيطة. الآن يشهد العالم تحولات جذرية ومهمة خاصة فى هيكليته ناهيك عن أيديولوجيته. فالولايات المتحدة أضحت فى «أفول» و«تراجع» بينما الصين ومعها روسيا إضافة إلى الهند فى صعود، والمحصلة أن العالم يتجه فى هيكليته إلى «تعددية قطبية» بدلاً من «الأحادية القطبية». التحول الثانى أن وحدات النظام العالمى الجديد لم تعد «الدول» فقط بل هى أيضاً الكتل الاقتصادية الكبرى والشركات العالمية العملاقة. فالدول الرأسمالية شكلت ما يعرف بـ «مجموعة الدول الصناعية السبع» (7-G) وفى المقابل شكلت الصين وروسيا مجموعة اقتصادية مقابلة هى «مجموعة بريكس» التى هى اختصار لأسماء الدول الأعضاء (البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا).كما شكلت مجموعة العشرين التى تضم دول البريكس وكبرى الاقتصاديات العالمية ومع وجود حلف شمال الأطلسى (الناتو) أخذ يتأكد الوجود القوى لتكتل آخر مقابل هو «منظمة شنغهاى» التى تضم «الصين وروسيا وخمس دول من وسط آسيا إضافة إلى الهند وباكستان وإيران وعدد من الدول المنتسبة» هناك أيضاً كتل إقليمية كبرى مثل «منظمة رابطة دول جنوب شرق آسيا (الأسيان) ، وكذلك «منتدى التعاون الاقتصادى لآسيا والمحيط الهادى» (أبيك). هذه كلها فواعل جديدة وقوية فى النظام العالمى ستفرض نفسها حتماً على هيكلية النظام الجديد. فى الوقت الذى أخذت تلعب فيه الشركات العملاقة والمنظمات الإقليمية أدواراً مهمة فى مجمل التفاعلات العالمية. لذلك فإن أى نزوع عربى للمشاركة فى صنع المستقبل العالمى من خلال المشاركة فى صنع النظام العالمى الذى أخذ يتشكل، ولو خطوة خطوة، فى السنوات الأخيرة لن يكون ممكناً، بل سيكون مستحيلاً دون أن تكون المشاركة العربية فى هذه العملية عبر «كتلة عربية مندمجة» وليس كدول متفرقة إن لم تكن متنافرة. هل يمكن أن يحدث ذلك؟
هذا هو سؤال التحدى، وهذا ما يأخذنا للإشارة إلى قضية مهمة تفرض نفسها على العقل العربى حالياً وهى وجود إدراك سلبى للحال العربى «الردىء» فى الوقت الراهن يقول إنه «لا أمل فى مستقبل عربى طالما أن العرب منقسمون ومتصارعون ومنجذبون نحو معادات بعضهم ومصادقة أعدائهم». ربما يكون ذلك صحيحاً ، لكن الركون إلى ذلك كارثة، والبديل العاقل يقول إنه لابد من التبشير بوعى بديل يقودنا إلى التأسيس لإدراك بديل على مستوى النخب المثقفة والشعوب والمنظمات الشعبية والأهلية ، يمكن أن يتحول فى المستقبل إلى قوة ضاغطة تفرض على النخب الحاكمة العودة مجدداً إلى الوعى بالهوية العربية المشتركة كشرط لا بديل عنه من أجل أن يكون لنا وجود وأن نكون شركاء فى صنع مستقبل عالمى نحن أحد أطرافه .