لا شك أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أحدث نهضة غير مسبوقة في تاريخ المملكة العربية السعودية، في شتى المجالات، ولا حاجة لنعدد لكم هذه الإنجازات، فهي معروفة وواضحة،
لكن ما نوّد الإضاءة عليه، هو الجانب الأساسي في شخصية الأمير الشاب الشجاع والذكي جداً، الذي أحرج أمريكا وإسرائيل، وتمرّد على قراراتهما، وتعامل بندية مع أكبر قادة العالم، وسيكون له بصمة كبرى في مستقبل المنطقة العربية، التي أطلق عليها تسمية “أوروبا الجديدة”.
عام ١٩٤٥ بعد عودته من يالطا ذهب روزفلت إلى السعودية، واجتمع مع الملك عبد العزيز آل سعود، وعقد معه ما بات يُعرف باتفاق “كوينسي” ، نسبة إلى الطراد التي جرت عليه المحادثات.
يومها تمكّن روزفلت من انتزاع السعودية من بين أيدي الإنكليز، مقابل وعد للملك، بأن لا تُقدّم أمريكا أي دعم لليهود يضر بمصلحة العرب.
جنت الشركات الأمريكية أموالاً طائلة من الذهب الأسود السعودي، ولم ينسَ الأمير محمد بن سلمان تذكير أمريكا بالأمر، في مقابلة تلفزيونية عندما قال: “تخيّل 10 مليون برميل يوميا، بسعر 3 أو 6 دولارات” هكذا ساهمت السعودية في صعود قوة أمريكا.
كانت الصدمة الأولى في حرب 1967 عندما تم حظر تصدير النفط العربي الى أميركا، لكن أمريكا أرسلت يومها إنذاراً بتدخل عسكري للسيطرة على منابع النفط، فانتهى الحظر سريعاً، وبقي سعر برميل النفط بحدود 3,01 دولار.
في عام 1944 اجتمعت 44 دولة في أمريكا في بريتون وودز، واتفقوا على اعتماد الدولار كعملة عالمية، ووضعت الدول الأوروبية المنهكة من الحرب، احتياطها الذهبي لدى امريكا، مقابل الحصول على مليارات الدولارات لإعادة الأعمار، شرط أن تسترد هذا الذهب لاحقاً، وفق سعر 35 دولاراً للأونصة.
عام 1965 طلبَ الرئيس الفرنسي شارل ديغول، استعادة الذهب من أمريكا، فرفضت الولايات المتحدة تلبية طلبه. فانسحب في العام التالي من حلف شمال الأطلسي، وفي عام 1969 دفع بطل فرنسا، الجنرال المتمرّد ديغول ثمن تجروئه على أمريكا، واستقال بعد موجة احتجاجات واسعة اجتاحت البلاد.
في 15آب عام 1971 وعلى إثر ازدياد مطالبات الدول الأوروبية باستعادة الذهب، أعلن الرئيس الأمريكي نيكسون فك ارتباط الذهب بالدولار، فشكّل ذلك صدمة هزت أسواق المال العالمية، وأحدثت أزمة لم تتعافَ منها بعض الدول الأوروبية حتى منتصف الثمانينات.
في أيار من عام 1973 عقد مالكو الأموال (المساهمون الرئيسيون في الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي) اجتماعاً في السويد، في بلدة سالتسجوبادن لنادي “بيلدربيرغ” الجزء الرئيسي لعالم المال والمصارف وعالم النفط، وكان الاجتماع بزعامة ديفيد روكفلر ، وحضره عدد من كبار رجال المال منهم روبرت أندرسون (أتلانتيك ريتشفيلد أويل)؛ ولورد جرينهيل (شركة البترول البريطانية) ؛ و إريك رول (“S. J. Warburg”) ؛ وجورج بول (ليمان براذرز) ؛ والتر ليفي (“ستاندرد أويل”) وزبيغنيو بريجنسكي وغيرهم.
كان المتحدّث الرئيسي في الاجتماع أحد رعايا روكفلير، اليهودي والتر ليفي، الذي أبلغ الحاضرين ضرورة الاستعداد لرفع سعر النفط، واستثمار العائدات اللاحقة على شكل قروض في الاقتصاد العالمي.
رسم مساعد روكفلير هنري كيسنجر الخطة بدقة، فشجّع مصر وسوريا على مهاجمة إسرائيل، وحدثت الحرب في شهر أوكتوبر، كما خُطط لها، فأعلنت الدول العربية وعلى رأسها السعودية حظر تصدير النفط إلى أمريكا والدول الداعمة لإسرائيل، وقفز النفط فجأة في الأسواق، واتخذ منحىً تصاعدياً حتى تجاوز سعره 12 دولاراً للبرميل الواحد في نهاية العام.
بعد فك ارتباط الدولار بالذهب، رغب عدد كبير من الناس باستبدال الأوراق الخضراء بالذهب، مما خفف الطلب العالمي على طباعة الدولار، التي يتولاها الفيدرالي الأمريكي، فذهب كيسنجر إلى السعودية، وأقنع الملك السعودي بأن أمريكا ستتعامل بسخاء مع المملكة، والمطلوب منها شيء بسيط، وهو أن تبيع السعودية النفط فقط بالدولار، فوافقت السعودية على الاقتراح، وتلتها في ذلك دول منظمة أوبك، ليدخل العالم عصر ال “بترودولار”
نجح كيسنجر في ربط الذهب الأسود بالدولار، وعاد الطلب على الأوراق الخضراء ليرتفع من جديد، وجنت أمريكا ترليونات الدولارات، من خلال تحويل أوراق لا قيمة لها إلى عملة عالمية ثابتة، شكّلت وما زالت معياراً ومقياساً لكافة العملات في العالم، خاصة بعد أن تحوّلت كافة هذه الدول، إلى سياسة تعويم سعر صرف الدولار، وفق العرض والطلب في أسواقها المحلية.
لم يعتقد الأمريكيون، أن هناك في السعودية، مَن يتجرأ على كسر خططهم، فهم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، رسمو خطة الشرق “الأوسط الجديد” ، فأزالوا نظام صدام حسين، بعد أن جرّوه إلى كمين مُحكَم، ودفعوه لغزو الكويت. ثم جعلوا إيران فزّاعة الخليج العربي، بعد أن تخلّوا عن حليفهم الشاه، وسهّلوا طريق الثورة الشيعية ضده، ثم قدموا السلاح لإيران في حربها ضد العراق.
نجحوا لاحقاً، وبالتنسيق مع إسرائيل، في محاصرة دول الخليج، وسدّوا طرق تجارتها البرية والبحرية، عبر افتعال توتر شبه دائم وتهديد إيراني في مضيق هرمز، وتهديد حوثي في باب المندب، وتهديد القراصنة في الصومال، وإشعال حرب في سوريا وفوضى في العراق، ولم يبق أمام دول الخليج نحو أوروبا والعالم الغربي، سوى طريق الحجاز، الذي سيتم حرف مساره، من الأردن نحو حيفا، بدل أن يبقى نحو دمشق، كما أسسه العثمانيون في بداية القرن العشرين.
“طريق الإزدهار” و “سكة السلام” وتسميات أُخرى بهدف واحد، هو جعل إسرائيل بوابة العرب نحو الغرب.
عندما ذهب الأمريكيون وطلبوا من ولي العهد السعودي، التطبيع مع إسرائيل، أسمعهم كلاماً واضحاً: “نفذوا حل الدولتين وسيتم التطبيع”.
ثمّ عندما طلبوا منه زيادة انتاج النفط، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، رفض طلبهم، واضعاً مصلحة السعودية فوق كل اعتبار.
وكانت الصدمة الثالثة للأمريكيين، عندما ذهبوا مؤخراً لإبلاغه عن استعدادهم، بالتنسيق مع إسرائيل، لتوجيه ضربة للمفاعلات النووية الإيرانية، فرفض التعاون معهم، ورفض فتح الأجواء السعودية لأي عمل عسكري ضد إيران.
أما الصدمة الأخطر، فكانت في الاتفاق الموقّع مع الصين، حول التبادل التجاري بعملات البلدين، وهذا أمر سيؤثر كثيراً على الدولار، الذي بات بعد حرب أوكرانيا، ولجوء روسيا إلى الاستغناء عن الدولار، في تعاملاتها مع أكثر من 40 دولة، موضع قلق أمريكي ويُنذر بخطر إنزال الدولار عن عرشه، كعملة عالمية، تربع عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
يقول الأمير محمد بن سلمان: “الشرق الأوسط سيكون أوروبا الجديدة”، وفي هذا الكلام تحدّ للغرب باكمله، وهو يسعى بالفعل إلى إحداث تغيير جذري في السعودية والمنطقة، وها هو يعيد العلاقات مع إيران، عبر وساطة صينية، موجهاً صفعة جديدة لأمريكا، وخططها الدائمة بافتعال الأزمات، ومحاصرة السعودية والعرب، بكل أشكال الفوضى والحروب والإرهاب.
محمد بن سلمان أذكى وأشجع قادة العرب، يغامر حيث لم يجرؤ كثيرون ممن سبقوه، فهل يتحقق الحلم؟؟؟