تخوض الولايات المتحدة الأمريكية مدعومة بقوى النظام الرأسمالى العالمى «مجموعة الدول الصناعية السبع» وبقوة التحالف الأطلسي «حلف الناتو» معركتين فى آن واحد من أجل الحفاظ على تفردها بقيادة النظام العالمى وتسخيره لخدمة أمنها و مصالحها العليا . المعركة الأولى ضد روسيا وشخص الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ليس فقط من أجل إحباط وكسر طموحه فى تغيير النظام العالمى وفرض نظام عالمى جديد متعدد الأقطاب تكون روسيا شريكة فى صنعه وقيادته، بل كسر روسيا من الداخل وتحويل حرب أوكرانيا إلى هزيمة لروسيا وشخص بوتين على أمل إسقاط النظام الروسى فى محاولة انقلابية تأتى كرد فعل داخلى للهزيمة التى يجرى ترتيبها له فى أوكرانيا، ومن ثم جعل روسيا إما دولة أوروبية طيّعة للقيادة الأمريكية أو تقسيمها إلى دويلات متصارعة والدفع بها لتكون إحدى دول العالم الثالث على نحو ما كان الطموح الأمريكى عقب سقوط الاتحاد السوفيتى . أما المعركة الثانية المتلازمة والمتزامنة مع تلك المعركة الدائرة ضد روسيا انطلاقا من الأراضى الأوكرانية فهى معركة احتواء القوة الصينية الصاعدة وتحجيمها عند حدود ما دون الخطر، لإدراكها أن الصين، وفقاً لنص استراتيجية الأمن القومى الأمريكية، وما حرص وزير الخارجية الأمريكى انتونى بلينكن على إعادة تأكيده، «هى البلد الوحيد الذى يسعى لإعادة تشكيل النظام الدولى ولديه القدرة العسكرية والتكنولوجية والدبلوماسية على تحقيق ذلك». فالصين لم تعد توصف فقط بأنها «مصنع العالم» أو أنها الاقتصاد الثانى فيه، ومالكة «ثورة تكنولوجية» هائلة ومتسارعة، أو لقدرتها العسكرية المتصاعدة، بل أيضاً لأن «طرقات الحرير الجديدة» التى هى «المشروع الاستراتيجى للصين» لم تعد مجرد مشروع اقتصادى، بل باتت، من المنظور الأمريكى، استراتيجية صينية لإعادة تشكيل النظام العالمى. وإذا كانت الولايات المتحدة قد اتخذت قرارها بالانخراط الفعلى فى الحرب الأوكرانية ، التى لم تعد مجرد حرب روسية- مع أوكرانيا، بل أضحت حربا أمريكية- أوروبية ضد روسيا فى أوكرانيا، فإنها، أى الولايات المتحدة شديدة الحرص على عدم التورط فى حرب ثانية فى الشرق الأقصى ضد الصين، والعمل بشتى الطرق على تأجيل الحرب مع الصين سواء فى تايوان أو فى إقليم المحيطين الهندى – الهادى الذى يعد أرض المعركة الحقيقى الذى تجهز له الولايات المتحدة ضد الصين، ولكن إلى حين تقرره واشنطن، تقدير زمن الحرب الأمريكية ضد الصين محكوم أولا بالمدى الذى ستأخذه الحرب الأوكرانية والنهاية التى سوف تنتهى إليها، لكن الأهم هو إعداد مسرح الأحداث الإقليمى (جنوب وجنوب شرق آسيا) لخوض تلك المعركة بنجاح. وإذا كانت الولايات المتحدة قد خاضت مواجهات أو فلنقل مناوشات مع الصين على مدى العقد الماضى والسنوات الأولى من هذا العقد كانت ساحتها هى عرقلة المشروع الصينى بضم تايوان إلى الوطن الأم أى الصين الشعبية، إضافة إلى الساحة الثانية وهى كوريا الشمالية بالعمل الدءوب على جعل كوريا الشمالية «دولة مارقة منبوذة» عالميا ومحاصرة قدراتها العسكرية المتصاعدة ، فإن جديد الاستراتيجية الأمريكية فى الإعداد للحرب المنتظرة ضد الصين هو توسيع مساحة المواجهة مع الصين عبر التأسيس لشراكات استراتيجية مع دول شرق وجنوب شرق آسيا جنبا إلى جنب مع عسكرة اليابان قسريا ودفعها لتكون شريكا فى تحالف استراتيجى جديد فى تلك المنطقة يضم الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا واليابان وكوريا الجنوبية. ففى زيارته الأولى إلى جنوب شرق آسيا منذ توليه منصبه التى حضر خلالها افتتاح اجتماع فى كمبوديا مع زعماء رابطة جنوب شرق آسيا (أسيان) التى تضم 10 دول معا أكد الرئيس الأمريكى جو بايدن أن المنطقة تقع فى قلب استراتيجية إدارته لمنطقة المحيطين الهندى والهادى، وأن واشنطن ستخصص موارد، وليس مجرد إطلاق وعود، فى إطار شراكة استراتيجية شاملة جديدة.. وإذا كانت الولايات المتحدة قد نجحت فى توظيف حلف شمال الأطلسي (الناتو) فى حربها الدائرة ضد روسيا فى أوكرانيا فإنها تتجه الآن إلى تأسيس حلف مواز جديد فى منطقتى المحيط الهندى والمحيط الهادى «حلف أوكوس « الذى يضم الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا لخوض الحرب المنتظرة ضد الصين، وفى خطوة وصفت بأنها «أكبر مسعى لمواجهة النفوذ المتنامى للصين» كشف الرئيس الأمريكى جو بايدن (الاثنين 13/3/2023) تفاصيل خطة لتزويد استراليا بغواصات هجومية تعمل بالطاقة النووية، فى تحرك كبير لمواجهة طموحات الصين. وجنباً إلى جنب مع هذا الحلف تنسق الولايات المتحدة تحالفا عسكريا آخر مع كل من اليابان وكوريا الجنوبية، وهو المشروع الذى دخل حيز التنفيذ الفعلى بإقرار اليابان إجراء تغييرات هيكلية لاستراتيجيتها الدفاعية، وصفت بأنها «رؤية دفاعية ثورية» تمثل خروجا عن دستور البلاد فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذى وضع قيودا على «قوات الدفاع الذاتى» وقد كشف رئيس الوزراء اليابانى فوميو كيشيدا عن هذه الاستراتيجية التى وصفها بأنها «نقطة تحول فى سياسات الأمن القومى لليابان».
وبموجب استراتيجية الأمن القومى الجديدة تعهدت اليابان بزيادة انفاقها الدفاعى إلى 2% من الناتج المحلى الإجمالى، وأعلن خطة بقيمة 320 مليار دولار أمريكى هى الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية، لبناء الجيش بحلول عام 2027 ، هذا التوجه العسكرى اليابانى الجديد مرتبط بقوة بمعاهدة الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة، لذلك كان التوجه الأمريكى- اليابانى المشترك لتوسيع هذه الاتفاقية لتشمل الدفاع الفضائى على نحو ما ورد على لسان لويد أوستن وزير الدفاع الأمريكى، ضمن خطوة اعتبرت أنها لمواجهة تزايد القدرات الصينية عبر الأقمار الصناعية. هذه الاستعدادات الأمريكية لحرب لم تعد مستبعدة مع الصين باتت تستحوذ على العقل الاستراتيجى الأمريكى لبلورة توجه استراتيجى جديد لعولمة المواجهة مع الصين وروسيا فى إطار الترويج لـ «الحرب ضد الاستبداد» باعتبارها العنوان الجديد للحرب التى ستشغل العالم بعد أن أخذ مفهوم «الحرب ضد الإرهاب» يتراجع فى ظل أولوية هدف الدفاع عن التفرد الأمريكى فى السيطرة على العالم .