(1)
عندما يصدر الرأى من ذوي الاختصاص تصبح له قيمة خاصة، بل وقيمة مضافة، وما أحوجنا إلى أهل الذكر في كل تخصص، لا سيما في الشؤون الجديدة غير المسبوقة في هذه الحقبة من تاريخ الإنسانية، وبالأخص أن أحد أكبر مسميات هذا العصر، أنه عصر الإعلام، ومن ثم تتجلى تداعيات ومعطيات ومفارقات الكثير من هذه الإشكالية في رباعية المفكر العماني أستاذ الإعلام السياسي بجامعة السلطان قابوس، د أنور بن محمد الرواس: «جدلية المواطن والسلطة» و«المشهد السياسي العماني»و«العقل المعطل في الخطاب العربي» ثم أطروحته التي بين أيدينا الآن عبر كتابه« السلطة الخامسة» تلك السلطة وأدواتها, التي أشعلت العالم معرفة وضياء، وأحدثت ثورة معرفية من خلال منصاتها الإعلامية، ووفرت للعالم أجمع الممر الآمن للولوج لمواقعها بكل سهولة ويسر. فشبكات التواصل الاجتماعي أتاحت للجميع التعبير بحرية بعيدا عن الرقيب والرقابة، وأحدثت زعزعة لكثير من الأنظمة التي تخاف الكلمة المنطوقة والمكتوبة.
يؤكد الدكتور الرواس أنها بالفعل السلطة الخامسة فوق كل السلطات، فأدواتها قوة ضاربة لا تتوقف، وشبكاتها؛ كالفيسبوك، تويتر، الانستغرام، السناب شات، اليوتيوب، التيك توك، ومنصات المؤسسات الإخبارية الإلكترونية، جديرة بإرباك النظم السلطوية التي فرضت نفسها على شعوبها. فقد أحدثت تلك الشبكات الاجتماعية اختراقا في الساحة الإعلامية المعاصرة، وفرض محتواها المعرفي تغييرا شاملا في السلوك العام للمجتمعات. واستفاد من لديه الحكمة من صناع القرار السياسي مما يكتب عبر المنصات الإعلامية؛ ليكون معينا في اتخاذ القرارات التي تتوافق وتطلعات الرأي العام المشارك في منظومة الحكم. والاحتكام للرأي العام بمختلف أطيافه تُعد حكمة بالغة في عصر السماوات المفتوحة.
وإذا كان د. أنور الرواس يؤكد مع كل أطروحة جديدة، أنه يمثل «حالة فكرية» ترمز إلى وجود «المفكر العماني» الذي يتجاور مع أقرانه المشتغلين بالفكر وشئونه وشجونه، فعلى الرغم من كثرة وتكاثر المبدعين في الآداب والفنون، فإن وجود «مفكرين» ليس بالكثير، فالفكر قبل النفط في الخليج.. فإن لنا أن نتساءل مع أستاذ الإعلام السياسي :
كيف ستحكم النظم الحاكمة في ظل حكم الشعوب للكلمة والمعلومة؟ إنها سلطة خامسة، فوق كل السلطات التقليدية، إننا أمام عالم سريع لا حدود له، ولا يعترف بالدول وسيادتها، ولا بالنظم الحاكمة وجبروتها، فهي التي أوجدت الحرية بمفهومها الواسع، وسلطانها الشاسع في التعبير الحر دون الحاجة إلى إذن من أحد.. سنرى.
(2)
«السلطة الخامسة» عنوان يفكر بعمق لنصوص الكتاب، باعتباره أكثر عناصر العتبات النصية اختزلا لجوهر النص عبر التكثيف والتمثيل، ليس فقط لكونه قيمة إشهارية وتعيينية، بل أيضا باعتباره قيمة جمالية وفكرية تحمل الكثير من جينات النص، فيغدو العنوان شفرة نصية، ومرتكزا أساسيا تتماهى فيه القصدية الواعية في الاختيار، مع الاستراتيجية النصية التي تتضافر فيها عناصر العملية الكتابية في سياق أبنية الخطة البلاغية الشاملة، كما نؤكد دائما في منظورنا الإعلامي، وفي نظرتنا النقدية السردية.
ويبدو أن كاتبنا مهموما بـ «السلطة» في منظومته الفكرية؛ إذ تشغل مساحة ملحوظة من أطروحاته سواء أكانت من زاوية « الرؤية» أم من مرآة «الرؤيا»، إذ إن كاتبنا ليس من هؤلاء المثقفين الذين ينتظرون حتى يتم الحدث ثم يصفق مع المصفقين، أو يرفض مع الرافضين، إنما هو ممن يمتلكون حدس زرقاء اليمامة – العصرية والمعاصرة – يحدق ويدقق ويوثق ما يطرح، ويدعو إلى التفكير في كثير من اللامفكر فيه، وما أشد احتياجنا في هذه الآونة تحديدا إلى من يحرض على التفكير الموضوعي، بعيدا عن التهويمات والتخمينات.
و«السلطة» هذه المرة في منظور د. أنور الرواس، هي سلطة جديدة غير مألوفة، فإذا كان قد تجادل مع قرائه عن«جدلية المواطن والسلطة.. قراءة جديدة في المجتمع الدولة» وهذا عنوان كتابه الأول، فقد اعتمد على علاقة الجدل القائم دائما بين المواطن والسلطة، وعمد إلى وضع كلمة «جدلية» لتحدد المنظور الذي يستخدمه في رؤيته لتقاطعات هذه العلاقة بتعارضاتها وتوافقاتها، ضمن سياق قانون جدل الكون والإنسان والأشياء، وإذا كان قد أوضح عبر محاوره الفكرية ذات البعد الإعلامي، أن تعامله مع معنى السلطة، لم يكن بالمعنى المحصور فقط في بعدها السياسي، بل ينسحب على كل أنواع السلطة؛ اجتماعية وثقافية واقتصادية ومجتمعية، خارجية وداخلية، فإنه في كتابه الذي بين أيدينا، يتناول سلطة أخرى، سلطة تحكم حتى الحكومات في عالم اليوم، كما سأذكر بعد سطور.
والبعد الأيديولوجى، في عناوين كتاب «السلطة الخامسة» هو أوضح الدلالات فيحملها رؤيته الواضحة ورأيه الصريح، طبقا لمعتقداته وقناعاته، حيث يختزل رؤيته في عنوان لا يفهم بمعزل عن النص، فيشحنه باشتغالية عالية تنفجر منها القصدية والانتباه، ليستمد قيمته الدلالية من حزمة ضوئية كاشفة لأبعاد القضية التي تشغل المؤلف، الذي يريد للمتلقي أن ينشغل بها أيضا، ويُعمل التفكير فيها، حيث يأتي محملا بإشارات وشحنات تتكئ على دلالات لغوية واجتماعية وأخلاقية.
إن كل عنوان، يبدو كأنه يفكر لمقالات الفصل في كليته، فيغدو بمثابة عملية تأشير لها، واختزال لما فيها من أفكار، بجدلية نسميها فى الأدبيات النقدية «جدلية العنوان والنص» فيختصر الكاتب نصه فى العنوان، ويعبأه بطاقة تجعله يفكر للنص، كوظيفة تتجاور مع الوظائف الانفعالية والمرجعية والانتباهية والجمالية، ومن أراد المزيد في تحليلنا لأسلوبية الرواس، فعليه الرجوع إلى كتاب «جدلية المواطن والسلطة» كأول مفردة على رفوف «مكتبة د أنور الرواس».
(3)
برغم الدعوات التأكيدية المستمرة، على أنه لا ينبغي أن ننسى أن عالم الانترنت بجميع كائناته ووسائله وإمكانياته، هو عالم افتراضي في المقام الأول، تحول إلى امبراطورية هي من صنع مؤسسات وبفعل فاعل، لكنها تظل افتراضية، مليئة بالغث والثمين، مسكونة بالاتجاهات والأطروحات، مسيرة للتوجيه لمآرب قد تبدو بريئة – وهذا قليل – ومآرب أخرى – وهذا كثير – موجهة، وما في ذلك شك لكل ذي فكر.
وعلى الرغم… وعلى الرغم…وعلى الرغم…يتأكد يوما بعد يوم، وحينا بعد حين، أن مفردات الميديا، من إنترنت، وجوجول، وفيس بوك، وتويتر، وواتساب، وتليجرام، وغيرها من شخصيات هذه السلطة، هي التي تحكم، وتحكم حتى (حكومة العالم الخفية)، فما بالكم بالحكومات الظاهرة، الجالسة على كراسيها.!.
و«السلطة الخامسة» كتاب يحمل رسالة مشحونة بأكثر من نذير وتحذير، ومسكونة بالخوف على المستقبل والتخوف منه، خاصة أنه يعتمد على اللحظة الراهنة، والمقدمات الصحيحة، التي تؤدي إلى نتائج سليمة بلغة المنطق.
وتتجلى أهمية هذه الإشكالية التي يتفجر بها الكتاب من كونها تتحدث بلغة العصر، الذي يمتاز بأن متغيراته أكثر من ثوابته، وهذه طامة كبرى لمن أراد أن يتفكر أو أراد مصيرا.. لاسيما سكان كوكب الإنترنت بكل متعلقاته ومعقولاته ولا معقولاته.
وتصبح الإشكالية أخطر، إذ ليس ثمة ملجأ يحمي العالم من مصادرها، لأن الحكم هو الخصم، وباختصار بدون لف ولا دوران المعضلة تقول: «منتجو المعرفة ومالكوها سيصبحون قريبا حكام العالم الجدد، أما مستهلكو المعرفة، فلن يكون لهم إلا دور العبيد الجدد» .
يقول مفكرنا«إن شبكات التواصل الاجتماعي، أحدثت انقلابا في كل مناحي الحياة، وأشعلت فتيل التحدي لدى فئات المجتمع، واخترقت منظومات قيمية وفكرية وأيديولوجية وثقافية، كانت تُعد من «التابوهات» المحرمة التي لا يمكن اختراقها».
ويحرضنا على ثقافة الأسئلة، حين يسأل، فنسأل معه، سؤالا استفهاميا واستنكاريا أيضا: لماذا تمرد الناس على منظومة القيم والفكر والثقافة؟ فإن الإجابة وببساطة، هي الانعتاق من التبعية، ومحاولة اكتشاف الجديد، والخوض في مغامرات قد تكون إيجابية، وقد تكون سلبية، إذ إن التمرد البشري قائم على كسر الممنوعات.
لكن تفاصيل هذا التحول العالمي غير المسبوق، يمثل العمود الفقري لهذه الأطروحة الإعلامية عبر الفصول التسعة، التي تنتظم كتابه الجديد: وسائل التواصل وتأثيرها في الرأي العام، الإعلام العماني بين الحرية والمسؤولية، العالم بدون إعلام، الوظيفة السياسية للإعلام، القضايا الخليجية في وسائل إعلامها، الشباب والإعلام الجديد، الإنسان والاتصال، الأسرة والعولمة والفضائيات، الإنتاج البرامجي.
(4)
نجح مصمم الغلاف ومخرج الكتاب الفنان د.«عبد الكريم محمود» في المساهمة بالتوظيف الفني لفكرة الكتاب، وصولا إلى المتلقي، فاختار الرموز الشائعة في فضاء كوكب الميديا، التي تحركها الأصابع الخفية، وصاغ رؤيتة الفنية المستلهمة من نبوءة المؤلف د.الرواس، وهي نبوءة فكرية إعلامية في ظاهرها، لكنها سياسية في باطنها، ومن ثم تتجلى أهميتها، خاصة حين ننظر إلي الواقع ونناظر به ما وراء الواقع، ذلكم أن مطابقة التصورات للتصديقات، هي أحد أكبر وأصدق المعايير في الحكم على المرجعية العرفية والمعرفية والأخلاقية والجمالية لعالم الميديا الرائع والمروع في آن واحد.
و«غافام» (GAFAM) هو اختصار أسماء شركات الويب الأمريكية العالمية الخمس، وهي غوغل.. وآبل.. وفيسبوك.. وأمازون.. ومايكروسوفت.. وكلها تأسَّست في الربع الأخير من القرن العشرين، وتطورت وازدهرت في العقدين الماضيين، ويُطلق عليها تسمية «الخمسة الكبار» «The Big Five». ومن المفيد أن نعلم أن غوغل تمتلك شركة يوتيوب، وأن فيسبوك تمتلك شركتي واتساب وإنستاغرام، وأن مايكروسوفت تمتلك شركة سكايب.
ووفقا لما نشرته صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية فقذ لُـقِّب هؤلاء الخمسة الكبار مؤخرا بـ «نقابة الجريمة الرقمية المنظمة» بسبب تشكيلهم خطرا كبيرا على الديمقراطية وعلى الحريات الفردية في العالم، لماذا ..؟ نظرا لنشرهم أخبارا ملفقة، وبث شائعات مغرضة متى شاءوا، وفي أي بلد من بلدان العالم، وبلغة أهل البلد.
كما كتبت مجلة «جون أفريك» أو «أفريقيا الشابة» مقالا مشابها، يؤكد خطر هذه المجموعة العالمية التي باتت تستحوذ على البيانات الشخصية لجميع مستخدميها وميولهم وسلوكياتهم في كل ما يتعلق بحياتهم العامة والخاصة، ناهيك عن التهرب الضريبي، التي تستفيد منه هذه الشركات الضخمة في كافة أصقاع الأرض، لا سيما بعدما باتت تشكل كتلة مالية ضخمة جدا، تقدر بحوالي أربعة آلاف مليار دولار أمريكي، كقيمة سهمية في البورصة.
(5)
نعم .. منتجو المعرفة ومالكوها، سيصبحون قريبا حكام العالم الجدد..أما مستهلكو المعرفة، فلن يكون لهم إلا دور العبيد الجدد، طبقا للأدبيات الإعلامية الحديثة جدا.
(6)
صدقت دكتور أنور الرواس، في نبوءتك «لا يمكن لأمة أن تعمل بمعزل عن الواقع التكنولوجي والتطور التقني في مجال الاتصال الإعلامي، لذا يجب أن تستفيد من مقومات العصر التقني، الذي بات يحمل مضامين إعلامية متعددة ومتجددة ومتغيرة، يمكن الوصول إليها دون خوف، فهي متاحة للجميع، بعيدا عن الرقابة الرسمية للدول».
وقد حق له القول التجسيدي، للراهن والقادم في فضاء السلطة الخامسة، التي هي أقوي من كل السلطات المعروفة، أن هناك حالة من الارتباك عندما يتعلق الأمر بشبكات التواصل الاجتماعي، وهناك من يتوجس منها خيفة؛ لكونها القوة الناعمة التي دخلت البيوت دون استئذان، وأصبحت تشكل تحديا على المجتمعات بحكم تأثيراتها المباشرة في حياة وسلوكيات المجتمعات.
(7)
أهلا بهذه الشعلة الإعلامية السياسية، التي يوقدها الدكتور أنور الرواس، من ذاته وموضوعيته، يتداخل نورها ونارها في تعادلية متناغمة، هي بمثابة المعادل الموضوعي لرؤية أستاذ الإعلام السياسي، في زمن تعز فيه «الأستاذية» الإعلامية إلا قليلا..!.