مصطلح الدولة العميقة، أو الدولة الموازية نشأ منذ عقود فى الأدب السياسى التركى لكى يشير إلى الدولة ذات الثقافة العلمانية التى انشأها كمال اتاتورك (أى ابو الاتراك) منذ عام01926 فى خضم ظروف سياسية ارتبطت بهزيمة الدولة العثمانية فى الحرب العالمية الأولى وانفراط عقد الامبراطورية فكان الفكر العلمانى بدستوره وثقافته والجيش الحارس لهذه العقيدة المناهضة للدين هى البديل عن دولة بدأت دينية ثم أنتهى بها الأمر بعد سبعة قرون إلى التفكك، فكان تغير العمود الفقرى من الدين إلى العلمانية هو العلاج لكى تتخلص الدولة التركية الوطنية من الترهل السياسى والادارى والدروشة الدينية وتصبح دولة قوية رشيقة متماسكة صالحة لعضوية أوربا بدلاً من قيادتها للعالم الإسلامى ضد أوربا. هذه النقلة الكبرى كانت موضع جدل للعالم الإسلامى وارتباك شديد عند المراقبين لدرجة أن أمير الشعراء أحمد شوقى الذى اعجب بكمال أتاتورك عندما انتصر على الغزو الأوروبى لبلاده عام 1919 ووصفه بأنه خالد أبن الوليد، عاد يقدح فيه بعد أن قوض الخلافة الإسلامية وترك المسلمين بلا قبلة سياسية دينية حتى لو كانت وهمية. وظل الجيش التركى حارساً للعلمانية وقاهراً لأى اتجاه دينى واستباح السلطة بسلسلة من الانقلابات العسكرية حتى وصل اردوغان إلى السلطة عام 2002 وهنا تجدد الحديث عن الدولة العميقة أى الدولة العلمانية التى ترفض تجاور أى نزعة دينية معها، ولكن أردوغان تسلل إلى هذه الدولة بالانجازات والشعبية بالادوات الديمقراطية ولقى ذلك هوى فى الغرب الذى أصبح ضد الانقلابات العسكرية وانحاز إلى الديمقراطية، فنفذ اردوغان إلى اركان الدولة العلمانية وهى القضاء وقمته المحكمة الدستورية العليا، وقيادة الجيش وتعديل دستورى يفسح المجال للتطور الديمقراطى دون خوف من التهام الديمقراطية عن طريق التحالف القضائى العسكرى.
ومعنى ذلك أن الدولة العميقة فى هذه الحالة هى الدولة العلمانية التى استقرت اركانها وتوطدت ثقافتها فى المجتمع حتى لو كان يرفضها سراً خشية مخالفة العلمانية، وأن اقامة دولة أخرى إلى جانبها تجمع بين العلمانية والدين أى العلمانية الايجابية أى عدم الخلط بين السياسة والدين بطريقة انتهازية، أو اقامة دولة على انقاضها بعد القضاء عليها هو أمر مستحيل.
انتقل النقاش حول فكرة الدولة العميقة من تركيا إلى دول المعسكر الشرقى الشيوعية التى قامت دولها على الفكر والعقيدة والتنظيم السياسى والاجتماعى الشيوعى فانخرط الشعب فى هذه الدولة حتى تهدمت بفعل الضربات الغربية وتوظيف الاقليات الدينية والعرقية، والتقدم لانشاء دول ديمقراطية بمساندة الغرب ضمن الترتيبات الدولية لتوزيع مصادر القوة حتى لا تعود للشيوعية فى هذه الدول قائمة.
فى ألمانيا تهدمت الدولة النازية التى صادفت قبولا ألمانيا واسعاً وتعبيراً عن الشخصية القومية الالمانية التى تتسم بالكبرياء ورفض الظلم، ولكن الاعتداد بالقوة وحيازتها كان فائضاً كبيراً أدى إلى التجاوز وتخطى هذا القدر المشروع من الأهداف إلى الجور على الدول والشعوب الأخرى، ولذلك فإن تكالب أوروبا والغرب على الدولة النازية وتبشيع صورتها واقامة دولة ديمقراطية مناهضة للنازية لقى هو الآخر هوى واسعاً لدى الشعب الألمانى وأن احتفظت بعض قطاعاته بالاعتزاز النفسى للمظاهر النازية التى لو تجردت من اضطهاد اليهود لكانت قد افلتت من هذا المصير.
ويطول المقام فى تأصيل هذه النظرية ولكننا نوجزهذا التأصيل بأن مكونات الدولة التى تطوع ثقافات الشعوب وتخلق مصالح مشتركة لها هى فى الحقيقة الدولة العميقة التى تطرد كل الطحالب التى تنشأ على سفحها من ممارسات واعراف. ولذلك فإن الدولة العميقة فى تركيا تنهار لصالح الدولة العصرية استجابة للحريات الدينية والرخاء الاقتصادى والحكم الرشيد وهذه العوامل هى التى تجعل الشعب هو الدولة العميقة التى تأبى تجاوز الجيش أو القضاء لمكاسبهم، وهى التى تثمر قيادات عسكرية وقضائية تكرس الدولة العميقة بمفهومها الجديد.
أما فى مصر فقد بدأ الحديث عن الدولة العميقة بعد ثورة 25 يناير وهى الدولة التى صممها مبارك وقامت على الفساد وترابط المصالح فى اطار الفساد وتحالف عدد من القوى على اعلاء المصالح الشخصية على المصلحة العامة فأصبحت الدولة العميقة رمزاً للتنظيمات العصابية وأصبح التعايش معها أمراً مستحيلاً. وعمق الدولة له بعدان، بعد المدة لأكثر من ثلاثين عاماً، وصلابة تكوين التحالفات مثل ترسبات المعادن الضارة فى الأجهزة الحيوية للجسم التى تقعد الجسد عن الاستمرار فى الحياة وقد تم التعبير عن ذلك بأكثر من مائة مؤشر عالمى احتلت مصر بجدارة مكانها الغريب على خرائط الفساد وعدم الشفافية وانعدام الحريات ومعدل القهر وسطوة النظام على الشعب وتبديد الثروات والهيمنة الاجنبية على مقدرات البلاد وانحسار الكرامة والقدرة على العيش وغيرها من المؤشرات المتعلقة بالمرض والثقافة والاجتماع والاقتصاد بحيث أصبح الانفجار الشعبى تلقائي ضد هذه الدولة التى تمكن منها النظام بأدواته وتحالفاته الآثمه فى الداخل والخارج.
والحديث عن الدولة العميقة فى مصر بعد ثورة 25 يناير ينصرف إلى عمق طبقة الفساد دون غيرها ولذلك فإن القضية تتعلق بالفساد وليس بالدولة، ويخطئ من يعتقد أن هدم الدولة هو هدم للفساد وانما تنقية الدولة من الفساد يجب أن يكون مشروعاً قومياً لكل من يتولى السلطة فى مصر. والدليل على ذلك أن النظام الذى نشأ عقب ازالة الملكية فى مصر عام 1952 كان يتعين عليه أن يجد دولة بالغة العمق ولكنها كانت بالغة العمق فى الاستقامة وخدمة الشعب، ولذلك يعانى المجتمع المصرى على مستوى الكيف. وعندما جاء السادات كان يمكن أن يجد دولة عميقة تقاومه ولكنه وجد بقايا نظام ورموز تخلص منها بما اسماه ثورة التصحيح، ولذلك فإن انفجار الشعب يوم 25 يناير فى وجه مبارك كان رداً من المستفيدين بالقطاع العام وغيره من الاجراءات المجتمعية فى عهد عبد الناصر والتى بددها السادات ومبارك، فهو انفجار على الأثنين معاً دون أن يدرى أطراف هذا الانفجار بأبعاد هذه المهمة.
فى ضوء ما تقدم فإن الحديث عن الدولة العميقة يضر ولا ينفع وانما يجب أن ينصب الحديث على تنقية الدولة والمجتمع من قيم الفساد التى تكرست عبر أربعة عقود فجعلت الدولة والنظام شيئاواحداً. ولذلك عندما وصل محمد مرسى إلى السلطة لم يدرك أبعاد الفساد الذى اصاب قطاعات الشعب والسلطة كما لم يدرك أن الاصلاح سوف تقاومه الفئات المستفيده فى كل أجهزة الدولة القائمة والتى تعادى أصلاً التيارات الإسلامية منذ حكم مبارك، ولذلك قررت دائماً أن الدولة المصرية والشعب بحاجة إلى قيم وحملة لإعادة الاخلاق العامة التى تجتز الفساد دون أن يقترن ذلك بتوظيف الدين لأى سبب نظراً للحساسية التى ينظر بها الفساد إلى الدين بعد أن أصبح الفساد فى ذاته ديناً فى الكثير من أروقة الدولة.
وخلاصة القول، أن الحديث عن الدولة العميقة فى مصر خرافة وأن الدولة كالمنزل يهدمه ساكنه أو يجمله فيصبح مقبرة أو حديقة، والعبرة بثقافة الساكن حتى لو كان البيت متواضعاً فى موقعه وبنيانه، فما بالنا بدولة راسخة الاركان ومجتمع قديم كمصر وتحوله دولة ومجتمعاً إلى التربص للاصلاح دفاعاً عن المكاسب الشخصية والفئوية هو الذى يسقط الدولة، ومن هذه النقطة يجب أن يكرس المصريون ثقافة المصلحة العليا فى الإعلام والتعليم وأن يتخلص ممن يكرسون ثقافة الفساد والانحراف والوصولية والنفاق فى جميع قطاعات الدولة حتى اختنقت الحريات وانطلق السحاب الكثيف يغلف مستقبل هذا الوطن.
أن الحديث عن الدولة العميقة يعنى ضرورة هدم هذه الدولة، لكن البيت لا ينصلح بهدمه وإنما بأخلاق ساكنه. فالشرطة والجيش والقضاء والإعلام والتعليم والثقافة هم بشر من هذا الشعب إذا صلح الشعب صلح القائمون على هذه المرافق وإذا كان الفساد صناعته فسدت شرايين هذه الأجهزة، ولذلك نؤكد مرة أخرى على أن المطلوب هو تنقية شرايين الدولة بالسياسات والثقافة والقانون والاصرار وليس بالغاء مكونات الدولة.