عمار يا مصر
كنت أتوقع فوزا كبيرا للمشير السيسي بحسب قراءة الواقع السياسي وتحولات الشارع وخريطة الحياة السياسية منذ 30 يونيو وحتى موعد الانتخابات التي انتهت منذ أيام قليلة , هذا التوقع لم ينصب بشكل أساسي علي حجم الدعاية أو جهد حملته الانتخابية التي لم تبلي بلاءا حسنا منذ الإعلان عنها لكنه انصب علي حالة شعبية ورغبة جارفة في استدعاء الرجل لتولي المسئولية التاريخية التي برزت في مجري حياته وكان عليه التعامل معها بأمانة وإخلاص لذلك كان ما كان وتحقق الفوز الساحق الذي استحقه .
أما الذي لم أكن أتوقعه هو هذه الهزيمة الكبيرة التي لحقت بالمرشح الرئاسي صباحي والتي تدعوني إلي التوقف أمامها كثيرا للتأمل والغوص في أسبابها لأنها بالقطع ستجعلنا نعيد ضبط الكثير من المفاهيم والكلمات التي نرددها والتي تحولت إلي شعارات أحيانا , وتابوهات أحيانا أخري , ودخلت قاموسنا اللغوي والثقافي لدرجة أننا نطلقها كمسلمات وبديهيات لا يجوز مناقشتها أو الاقتراب منها رغم أن الثورة جاءت لتهدم الكثير من المفاهيم القديمة البالية والتابوهات التي استعصي علي الجميع تفكيكها !!
نتيجة صباحي في انتخابات الرئاسة أسقطت بامتياز ورقة التوت الأخيرة عن مصطلح الشباب الثوري , ونزعت عن الأحزاب السياسية أنبوب التنفس الصناعي ( قديمها وحديثها ) خصوصا التي تشكلت أعقاب ثورة يناير , وكشفت وعرت ( من التعرية ) نخبة من محترفي التنظير والتدبير والتهليب وركوب الأمواج وحملة المباخر في حفلات الزار , وأبرزت جهل طبقة من مثقفي الميادين ومقاهي الحواري ورواد الحانات في وقت الظهيرة بحقيقة الشعب الذي يتحدثون عنه ويرتزقون علي حسابه !
السيد صباحي ارتكز في بناء حملته علي الشباب باعتبارهم الثورة وخص منهم الشباب الثوري وهؤلاء بالقطع أعداد كبيرة فوجه لهم الخطاب ووجه لهم الرسائل التي تدغدغ مشاعرهم بالحديث عن الشهداء من أصدقائهم وجيرانهم ووعدهم في كل كلمة أو خطاب بإلغاء قانون التظاهر والإفراج فورا عن المعتقلين – كما يحب أن يطلق علي المقبوض عليهم قانونا – وكان يسمي بعضهم !! ومع ذلك حصل علي أصوات تصل إلي أكثر من 700 ألف بقليل, فأين الشباب الذي كان يلتف حوله وإلي أين ذهبت أصواتهم ؟ سؤال يحتاج إجابة لضبط مفهوم الشباب الذي نتحدث عنه علي مدار الساعة, وإذا كانت الأصوات التي حصل عليها هي كلها من الشباب الثوري.. فماذا نقول عن الشباب الذي يلتف حول السيسي .. هل نخرجهم من تصنيف الشباب ؟!! الحقيقة أن مصطلح الشباب يجب تحريره من أسره الذي طال منذ ثورة يناير وحتى اليوم , لأن الشباب في طول البلاد وعرضها يعملون أو يبحثون عن عمل بعيدا عن أضواء المدينة ووسائل الإعلام وكاميرات الإبهار التي حولت عاطلين إلي نجوم , وفاشلين إلي رموز تخشاهم وتعمل لهم حساب .
نتيجة صباحي وضعت الأحزاب السياسية التي دعمته وأعلنت وقوفها جانبه في حجمها الحقيقي فلا تبدو لنا غير لافته وميكروفون ومجموعة تصريحات ومقاطع فيديو يشاهدها جمهور الفضائيات ويتفاعل معها أصدقاء الفيس وغرف الشات والمغردون في الفضاء فلم يظهر لهم وجود في الشارع أو قدرة علي الحشد لصالح من يدعموه , وإذا كان ما حصل عليه صباحي من أصوات هم محصلة أعضاء هذه الأحزاب وحجم التيار الشعبي فتلك كارثة بكل المقاييس تجعلنا نقول أن الحياة السياسية في مصر تلفظ أنفاسها الأخيرة وأن تكلفة جهاز التنفس الصناعي الذي ترقد عليه أموال مهدرة يدفعها الشعب المصري !!
الغريب أن الشباب الثوري الذي قرر احتكار الثورة ولم يقدم لها شيئا أكثر من باقي الشعب الذي خرج بنبل وشرف يدافع عن نفسه وهوية بلده ربما استفاد بأشكال مختلفة مشروعة أحيانا وغير مشروعة أحيانا كثيرة مازال هذا الشباب ومازالت هذه الأحزاب تجادل وتتهم الشعب بأنه أساء الاختيار وهم لا يعلمون أن الغالبية من الشعب كان قد حسم اختياره منذ 26 يوليو وأكد ذلك في الاستفتاء علي الدستور في يناير 2014 , وأن كل ماحدث من دعاية وكلام وخطب رنانة وحشد لم يغير في قناعاته شيئا , وهذا ما يؤكد أن النخبة ورموز الفضائيات ومثقفي الثورة ومنظريها فشلوا في قراءة الشعب المصري الذي قرر بوعي وقرأ الصورة جيدا وأدرك الخطر المحدق بالوطن مبكرا وحسم أمره .. كل التقدير لصباحي وعليه أن يستوعب الدرس ويخرج من أسر الشباب الثائر بين قوسين ويبني معارضة حقيقية يحتاجها الوطن ويدعو أنصاره الذين خذلوه للمشاركة في البناء