أ ش أ
إذا كانت الثقافة ممارسة..فعل يومي يمارس على نطاق واسع بطرق وأشكال لا نهائية، فلعل هذا الحي العريق الواقع شمال القاهرة هو التجسيد على الأرض لثقافة التسامح ومعنى الإخاء وتلاوين المحبة بين الجميع دون تفرقة ممجوجة بين مسلمين ومسيحيين.
هنا في “شبرا مصر” الفضاء الأبرز للتسامح الطبيعي والحياة الطبيعية بعيدا عن الشعارات والتنظيرات.. وفي هذا الحي الذي تقطنه اغلبية من الشريحتين الدنيا والمتوسطة للطبقة الوسطى المصرية، والذي يحلو للبعض تشبيهه بالحي اللاتيني في باريس، مازالت الروح تنبض بالحب والاحتفال بالحياة. مسجد الخازندار قريب من كنيسة سانت تريزا التي يؤمها مسلمون الى جانب المسيحيين للتبرك، بل كان يأتي إليها نجوم في الحياة العامة مثل عندليب الغناء الراحل عبد الحليم حافظ.
لا تبدو شبرا مثل بعض الأحياء الجديدة أو مناطق الضواحي “ذلك الكائن العملاق المخيف” الذي يتوه فيه القادم من خارج المنطقة، فهي رحبة ومرحبة بالجميع وليست “مدينة بلا قلب”، فيما تشكل علاقة أبناء الحي بهذه المنطقة قصة مصرية حميمة للغاية. ولا يكاد بمقدور من عاش خارجها أن يشعر بمدى عمقها وتركيبها خاصة لهؤلاء الذين كتب عليهم “الخروج من شبرا” والإقامة في أحياء ومناطق أخرى أو السفر الطويل للخارج.
وفيما أفرزت الساحة الثقافية المصرية أدباء شبان يكتبون عن عالم الأقباط مثل هدرا جرجس المولع بالكتابة عن المطارنة والمتدينين من المسيحيين ويغزل الحكايات الشعبية في سرده ضمن مشروع حكي لابن أسوان يستلهم من الجنوب حكايات مغايرة، فإن عالم شبرا لا يعرف أي نوع من “الجيتو”، فهو منفتح على الجميع وللجميع.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح في سياق كهذا:”من يكتب شبرا ويكتب عن شبرا؟!”.. صحيح أن هناك أعمالا درامية ظهرت في التلفزيون والسينما عن حي شبرا لكنها لم ترق لمستوى عبقرية المكان والتاريخ والزمان، ومن هنا فإن الناقد والكاتب الكبير فاروق عبد القادر، وهو ابن شبرا تمنى غير مرة أن يكتب عن هذه المنطقة الفريدة التي عاش فيها لكنه قضى قبل أن يحقق أمنيته الإبداعية.
لا أحد بمقدوره في الغالب أن يفلت من تأثير المكان، وهذا ما يتجلى بوضوح في ابداعات هرم الرواية المصرية والعربية نجيب محفوظ الذي ولد في حي الحسين وعاش في هذا الحي القاهري طفولته وصباه وشبابه الأول.
وحي الحسين أشبه بجامعة كبرى لا يمكن أن يفلت من تأثيرها من عاش فيها وأحبها وانتمى اليها خلال فترة أساسية من العمر، كما حدث مع نجيب محفوظ، وهكذا كان من الطبيعي أن يؤثر هذا الحي القاهري في أدب صاحب نوبل.
وذلك التأثير واضح تماما في “المرحلة المحفوظية” التي يسميها النقاد بإسم “المرحلة الواقعية”، فكثير من أسماء رواياته مستمد من بيئة الحسين مثل “خان الخليلي” و”زقاق المدق”، و”بين القصرين”، و”قصر الشوق”، و”السكرية”، وكلها أسماء شوارع وأزقة في حي الحسين انتقلت إلى عالم نجيب محفوظ الروائي الذي رفع راية الحسين فأصبحنا نشم رائحة هذا الحي ونكاد نرى خريطته الجغرافية والإنسانية معا كما قال الناقد الراحلرجاء النقاش.
والظاهرة حاضرة أيضا في إبداعات توفيق الحكيم حيث اتخذت روايته الشهيرة “عودة الروح” من حي السيدة زينب القاهري مسرحا لها، وكذلك فعل يحي حقي في روايته “قنديل أم هاشم” حيث اتخذ من هذا الحي الشعبي العريق بيئة للرواية.
فمتى تجد “شبرا مصر” من يكتبها على مستوى يليق بعبقريتها الجغرافية والإنسانية ويستخدمها بيئة لعمل إبداعي كبير، ويستخدم قاموسها الإنساني كما استخدم الحاضر الغائب نجيب محفوظ “قاموس حي الحسين الشعبي” في كثير من الأحيان للتعبير عن أفكاره وتجاربه، ناهيك عن استخدامه لرمزية “الحارة التي تعادل العالم أو الدنيا” و”الفتوات” الذين يمثلون “القوة” ويملأون أدبه بالحيوية، فضلا عن “العنصر الصوفي” بما يولده من نشوة كبرى في النفوس.
وإذا كان نجيب محفوظ قد تفوق في لعبة كرة القدم في ساحات وشوارع حي الحسين وكذلك في حي “العباسية” حتى أنه قال مازحا:”لقد أضعت مستقبلي الكروي في سبيل الأدب”، ففي شبرا وملاعب مدرسة التوفيقية كان المفكر الراحل جمال حمدان في شبابه الأول نجما من نجوم الساحرة المستديرة ولطالما أبدع كرويا حتى أنه كان يمكن أن يكون لاعبا نجما بمقاييس أيامنا الحاضرة.
وفي شبرا عاش الموسيقار بليع حمدي أيام الصبا والشباب، كما عاش الفنان الكبير حسين رياض والنجمة العالمية داليدا والفنانة الكبيرة ماري منيب وكثير من الأسماء التي توهجت في دنيا الفن وعالم الكتابة.
ومازال كبار السن في منطقة “مسرة” يتحدثون عن أيام الشباب الأول “لبابا مصر والعرب الراحل شنودة” الذي تظهر صوره في تلك المنطقة وغيرها من ربوع شبرا مصر الزاخرة بالكنائس جنبا الى جنب مع المساجد.
ويستعيد محمد عبد العظيم الذي درس بالأزهر الشريف بشجن مقولة للبابا الراحل شنودة ان مصر وطن يعيش فينا”، فيما يقول جاره وجيه ميخائيل في تلك المنطقة التي جسدت ومازالت معاني الوطنية المصرية الجامعة إن “البابا شنودة كان حبيب الملايين من المسيحيين
والمسلمين معا”.
وفي هاتيك الأيام من أربعينيات القرن العشرين كان البابا شنودة أو “نظير جيد روفائيل” شابا كثير القراءة كما عرف في منطقة مسرة حيث كان يؤسس لخلفيته الثقافية الرفيعة قبل أن ينتمي لذلك الجيل الأول من الرهبان الجامعيين من أصحاب التخصصات العلمية المختلفة ليقود الكنيسة الوطنية المصرية على مدى 41 عاما.
وتحول البابا شنودة دارس التاريخ وضابط الاحتياط لسنوات بالجيش الوطني المصري الى مدرسة للوطنية المصرية الخالصة والرافضة بقوة وحسم لأي تدخل أجنبي في الشأن المصري الجامع للمصريين مسيحيين ومسلمين وهو الذي تولت سيدات مسلمات في قريته “السلام” بمحافظة أسيوط رضاعته بعد أن توفيت والدته لتتركه رضيعا يتيما ليكون بعد ذلك الأب الحنون لكل المصريين.
والبابا شنودة الذي عاش فترة من حياته في “شبرا مصر” تكاد حياته المديدة تعبر عن حقيقة تتجلى بوهج وألق في حي شبرا، وهي أن الأقباط المسيحيين مكون أساسي من مكونات البنية المجتمعية المصرية ولا يمكن تصور مصر دونهم وأنه إذا كان التاريخ حاشدا بالمكائد والمخططات الخارجية، فإنه حافل أيضا بالقامات الوطنية المصرية الشامخة.
وبقدر ما تؤكد الحقائق التاريحية على أن “المسيحية العربية” قدمت للأمة كوكبة مضيئة من المناضلين على مستوى الفكر القومي وحركة المقاومة ضد المشاريع الاستعمارية التقسيمية بقدر ما تشهد على أن البابا شنودة كان مناهضا للاستقواء بالخارج والمحاولات الآثمة لضرب مفاهيم الهوية الوطنية بالغلو الطائفي.
كلها مفاهيم تنبض بالحياة على الأرض في “شبرا مصر” ودون تنظيرات أو فلسفات، ونظرة على الانترنت أو “الشبكة العنكبوتية” تكشف عن كثير من الكتابات التي تنبض بالحب والحنين لشبرا” وخاصة لهؤلاء الذين كتب عليهم أن يخرجوا منها ليعيشوا في مناطق أخرى دون أن تخرج شبرا منهم أبدا” .
وعلى سبيل المثال ها هي مدونة :”شبراوية من شبرا” تتحدث فيها سيدة شبراوية مجهولة عن المكان والزمان و”شارع خلوصي ودوران شبرا وكورنيش روض الفرج وفسحة العصاري في شارع الترعة وسينما الأمير ومولد النبي ومولد ماري جرجس وآذان الفجر وأجراس الكنائس وجمال شهر رمضان وجورج شقيقها في الرضاعة وهي المسلمة وزفة الحجاج.
تقول هذه “المدونة الشبراوية” على شبكة الإنترنت:”جميلة يا حبيبتي يا شبرا” مستعيدة أجواء التسامح والأمان، فيما تتساءل بقلق عما حدث من متغيرات في الحياة المصرية تتعارض مع “ثقافة شبرا”، فيما تبدو كتاباتها مثل مدونين آخرين، ايماءة لما يصفه البعض “بأدب الإنترنت”.
لا يمكن في الأدب -مثل بقية العلوم النظرية- استخدام التعميم كوسيلة لطرح الاستنباطات أو نتائج عملية تحليل تطور الفنون، لكن يظل بالإمكان ملاحظة مجموعة من “التيمات” والأفكار التي تظهر بقوة في كتابات مرحلة ما ويمكن القول إن قضية العلاقة بين المسلمين والمسيحيين باتت ظاهرة في عدة أعمال إبداعية سواء في أعمال ورقية أو الكترونية، لكن الثابت أن “ثقافة شبرا مصر” مطلوبة في مواجهة كثير من التحديات الطارئة.
نعيش لحظة صعبة تتهاوى فيها الحدود بين الحقيقي والمزيف.. بين الجيد والرديء.. من هنا يستبد الحنين لثقافة شبرا بالكثيرين ولو لم تكن موجودة لاخترعناها اختراعا لكنها من حسن الحظ موجودة بل ومتجذرة في الوجود المصري. بأي كلمات نتحدث عن “شبرا مصر” عاشقة الحياة المحبة للجميع.. ترافقنا على لعب وافترعنا أوجها للحلم وكان الحلم مصريا مصريا ..وهذه روعة “شبرا مصر” مهما ارتدت الأيام شيئا من الوجع وتلاوين الخريف!
قال الروائي الكبير يوسف القعيد إن كثرة دفاعه عن المسيحيين
جعلت كثيرين يعتقدون أنه مسيحي، مشيرا إلى أنه ضد اطلاق مسمى الأقباط على المسيحيين، فالأقباط هم جميع المصريين.
وأضاف:”أنا من قرية فيها كنيسة وأعي مشكلة الاحتقان الطائفي وضراوتها منذ أن كنت طفلا صغيرا، فأمي كانت تقول لي لا تذهب ناحية الكنيسة حتى لا يضعوك في البئر وتتحول إلى نصراني”. ويرى القعيد أن اقتراب الأدب من هذه المشكلة محفوف بمخاطر كثيرة وأنا أرجو من الاخوة المسيحيين أن يدخلوا المعترك لأنهم يرون الجزء الأكبر من الصورة. وأشار في هذا الصدد إلى رواية “قرية غرب النيل” للأنبا يوحنا قلتة والتي تتحدث عن تحول شخص مسيحي إلى الإسلام ليتزوج من مسلمة يحبها، ورواية “شبرا” لنعيم عطية، موضحا أنه تناول هموم الأقبط في رواية “قطار الصعيد”، ورواية “قسمة الغرماء” وتقومان على فكرة أن تقسيم هذا الوطن سيتسبب في خسارة فادحة للجميع.
وأكد يوسف القعيد أن أدبيات التعامل مع المشكلة تنطوي على خطأ، فمثلا الحديث عن “عنصري الأمة”، أو “متانة الوحدة الوطنية”، وحتى كلمة “الوحدة” تفترض وجود طرفين.
ولاحظ أنه عندما قام البابا تاوضروس مؤخرا بافتاتح كنيستين في سوهاج اقتصر الحضور على المسيحيين هو أمر جديد وغريب، تماما مثل ظهور تعبير “الأدب الإسلامي” و”الرواية الإسلامية” و”الرواية المسيحية”، فهذا لا يجوز، لأن الأدب يجب أن يكون أدبا وحسب.
وقال الكاتب صلاح عيسى إن اهتمام المثقفين والأوساط الثقافية بمشكلة الاحتقان الطائفي في مصر “بالغ وقديم”، لكن المشكلة عميقة متجذرة وتدور في أوساط ليست معنية بالعمل الثقافي ولا تتابع غالبية منتجه خصوصا الكتب.
وأضاف عيسى أن مشكلة الاحتقان الطائفي تدور بين عوام الناس، وجزء من المشكلة أن الجماعات الدينية في الجانبين تؤجج هذه المشكلة وتنشر ثقافة التعصب وكراهية الآخر.
ورأى أن الجهد الثقافي في معالجة هذه المشكلة يعد الأقل تأثيرا لأن المشكلة متعلقةأساسا بالتعليم والإشكاليات الاجتماعية كالفقر.
ورأى أن هناك عوامل أهم من العامل الثقافي في معالجة الاحتقان الطائفي، مثل التعليم الذي يتم تلقينه في المدارس منذ الطفولة قد يكون أكثر تأثيرا من الثقافة، لكن من المؤسف أن مدرسين يتهمون بنشر التعصب.
ودعا إلى مواجهة المشكلة كجزء من السياسة العامة للدولة، معتبرا أن مشكلة الاحتقان الطائفي “تعالج بشكل غير مسؤول”.
وقالت الروائية الدكتورة هويدا صالح انه كان يمكن أن يكون للثقافة الأثر الإيجابي في رأب الصدع بين المكونين الثقافيين في التركيبة الاجتماعية المصرية، وأن تكرس لمعنى المواطنة والمساواة بين كل العناصر والمكونات الثقافية في المجتمع، فلا نجد معاني تطرح مثل مسلمين ومسيحيين وسنة وشيعة، لكن الثقافة فشلت في فعل ذلك بامتياز.
وأضافت أنه بهذا الفشل ظل الآخر المسيحي بالنسبة إلى المسلم عالما مستغلقا، ولم تعرف الثقافة بالآخر ولم تتناول حياته وتفاصيلها وخصوصيتها، بل دأبت على تصدير صورة للمسيحى نمطية وضبابية، وقدمت نظرة أحادية لذلك الآخر ورددت بدون وعى أو تأمل مقولة عنصري الأمة”، “المسلمين والمسيحيين إيد واحدة”، وإلى غير ذلك من الجمل الشعاراتية، ولم تفلح أن تحول تلك المعاني إلى ممارسات على أرض الواقع، ولم تستطع أن تزيل ذلك الاحتقان الديني الحاد بين المصريين.
وتساءلت الدكتورة هويدا صالح، و الآن وبعد أن قامت الثورة، وفتح ملف الوحدة الوطنية والمسيحيين وعلاقتهم الشائكة والمرتبكة بالمسلمين، هل تستطيع الثقافة أن تقوم بذلك الدور المفقود؟ هل يمكن أن تكرس معنى المواطنة التامة دون تلك النظرة العنصرية التي تصنف الناس على أساس الجنس أو الدين أو اللون؟ هل يمكن أن تكرس معنى الوطن ومعنى أن تكون مصريا وكفى دون أن يبحث الآخر عن دلالات الدين من خلال اسمك أو مظهرك أو ملابسك أو أي شئ؟
كما تساءلت: هل يمكن للثقافة أن تقضي على مفاهيم عنصرية نمارسها في أرض الواقع دون أن ندري؟ وأكدت أن على أجهزة الثقافة والإعلام أن تعيد صياغة الثقافة الشعبية التى بها بعض العبارات أو الكلمات التى تضطهد الآخر وكذلك آن الأوان أن تلعب الثقافة دورها بتحرير العقل لإعادة الوعي المفقود والتخلص من العنصرية والطائفية.
وأكدت ضرورة أن تقدم الثقافة وأجهزة الاعلام الآخر في تجلياته الإنسانية وتقدم خصوصياته وتصوره كشريك أساسي في هذا الوطن، مشددة على ضرورة أن تتصدى الثقافة للتهميش والإقصاء الذي يمارس ضد شريك الوطن.
و أكد الناقد الأدبي الدكتور شريف الجيار أن الشخصية القبطية تمثل جزءا أصيلا من نسيج المجتمع المصري لذا اهتمت بها كل الأنواع الأدبية إن كان في السرد بأنواعه أو الشعر بأنواعه الأخرى ولكن نلحظ أن حظ الشخصية القبطية كان أوفر في الكتابة الروائية حيث كانت وما زالت جزءا أصيلا من الخطاب الروائي المصري كما نلحظ في كتابات نجيب محفوظ في “السكرية” وفي “الحرام” ليوسف ادريس وفي “ذات” و”شرف” لصنع الله إبراهيم وفي كتابات ادوار الخراط مرورا بـ “عزازيل” يوسف زيدان و”عمارة يعقوبيان” و”شيكاغو” لعلاء الأسواني و”أسطاسيا” للراحل خيري شلبي و”أغنية العاشق ايليا” ليحيى الطاهر عبد الله.
وأضاف شريف الجيار في تصريح لوكالة أنباء الشرق الأوسط أنه من ثم نلحظ أن هذه النماذج الروائية والقصصية وغيرها قد احتفت بالشخصية القبطية كجزء من نسيج العمل السردي الذي يؤكد أنها جزء لا يتجزأ من نسيج الشخصية المصرية الاصيلة، فمعظم هذه الكتابات تعاملت معها مبدئيا من الجوانب الظاهرية الخارجية والتي تتجلى في اهتمام معظم هذه الروايات بوصف الشخصية في جمل مكثفة تشي للمتلقي بأنها شخصية قبطية.
وقال إن متتبع مشوار الرواية المصرية يلحظ أن الشخصية الروائية قد جاءت بعدة تجليات منها الشخصية القبطية التي لا تعاني إلا ما يعانيه غيرها من المصريين والتي لا يتجلى فيها التمييز العنصري أو العقدي بين مسلم ومسيحي، كما في قصة “لا إله إلا الله” لإحسان عبد القدوس التي جاءت فيها الشخصية المحورية، “إبراهيم” حائرة بين أبيه المسلم وأمه المسيحية، وهناك شخصية القبطي الريفي في رواية “الحرام”، وتتجلى لنا هذه الشخصية أيضا بما تعانيه في واقعنا المصري على جانب آخر، كما في كتابات لويس عوض وادوار الخراط وقصة “اللحم والسكين” ليوسف الشاروني ورواية “خالتي صفية والدير” لبهاء طاهر التي تأتي فيها الشخصية القبطية كأي شخصية مصرية من الممكن أن تكون غير صالحة، وتأتي فكرة الصداقة بين القبطي والمسلم في صداقة “المقدس دميان” والشيخ مجدالدين” في رواية “لا أحد ينام في الاسكندرية” لإبراهيم عبد المجيد، وهو ما يتضح أيضا في رواية نعيم صبري “شبرا”، ورواية “ترابها زعفران” للخراط التي تتجلى فيها العائلة القبطية متماهية في ذوات العائلات المصرية الأخرى.
وكما يقول الناقد الدكتور شريف الجيار فإن هموم الأقباط ومشكلاتهم في الواقع المصري ومنها تدني مستوى تمثيلهم بالجيش والشرطة وتجاهل الحضارة القبطية في المناهج التعليمية وتقييد بناء الكنائس، تظهر في رواية صنع الله إبراهيم “شرف” وهي من الروايات المهمة التي ترصد معاناة الأقباط في مصر، وهناك للكاتب نفسه رواية “ذات” التي ترصد الاضطهاد والتعصب ضد الشخصية المسيحية، وهناك رواية مهمة لحسني حسن تسمى “المسارنة مون” التي ترصد وتلمس هموم الأقباط وتعكس مشاعر قلقهم من الداخل في لغة بسيطة تعكس عمق المعاناة وإحساس الشخصية القبطية بأنها أقل مرتبة في الحضور. ويضيف الجيار: كما نجد هذا في رواية “المرايا” لنجيب محفوظ والتي تعكس أيضا هموم الشخصية القبطية على لسان “كمال عبد الجواد”، والتي تصف مشكلة الأقباط بأنها هي مشكلة الشعب المصري، والمقصود بذلك السعي والبحث عن الديموقراطية، وهناك نوفيلا للروائي عبد الحكيم قاسم تسمى “المهدي” تجسد أيضا فكرة إسلام القبطي الفقير.
ويلاحظ شريف الجيار أن الخطاب الروائي المصري لم يتجنب التعامل مع الشخصية القبطية كجزء أصيل في بنية الرواية المصري، وهو اعتراف أصيل بهذا الوجود القبطي داخل الوطن الأم مصر، ومن ثم استطاع الكتاب المصريون، أقباطهم ومسلموهم، أن يعكسوا جزءا من المسكوت عنه تجاه الشخصية المسيحية والتي تعطي جرس إنذار بشكل أدبي للمسوؤلين والساسة وأولياء الأمور في هذا الوطن أن يسعوا إلى ترسيخ مبدأ المواطنة الذي يؤكد على ديموقراطية الدول ومدنيتها، وبالتالي جاء الأدب -ولا سيما الرواية- مواكبا وراصدا تاريخيا وإبداعيا لتطور الشخصية القبطية وتغير مشاكلها من عصر إلى آخر داخل البناء الإبداعي الذي يكرس ويستشرف ما يمكن أن يحدث إذا لم ننتبه.
والكاتب والروائى خالد إسماعيل أن قضية الأقباط تشغل المبدعين المصريين من ثلاث وجهات، الأولى وجهة الوحدة الاجتماعية الثقافية الوطنية، وهذه -كما يقول- موجودة بكثافة لدى نجيب محفوظ، خاصة في رواية “الشحاذ”، وعبدالحكيم قاسم، وروايته المهمة “المهدي” التي رصدت بدايات التغلغل الإخواني في المجتمع المصري وضعف الشعور الوطني واستبداله بالشعورالديني.
وتابع قائلا: من وجهة ثانية هي البحث عن المناطق المهملة من تاريخ الأقباط مثلما فعلت سلوى بكرفي روايتها “البشموري” التي رصدت جزءا مهما من تاريخ الأقباط، وكذلك فعل يوسف زيدان في روايته “عزازيل”.. أما الوجهة الثالثة، فهي الوجهة التي ترصد القمع الواقع على القبطي باعتباره مواطنا منتقص الحقوق وباعتباره مواطنا يقع عليه قمع ديني فى ظل هيمنة الفكر المتطرف.
وأضاف إسماعيل: حاولت في تجربتى الابداعية التزام الوجهة الثالثة بقدر المستطاع من خلال رصد الحياة في جنوب الصعيد في زمن التحول الرهيب من الشراكة بين الأقباط والمسلمين إلى العداء الديني والكراهية التي صارت تهدد وحدة مصر السياسية والجغرافية.
وأكد الكاتب والروائي خالد إسماعيل أنه لا يمكن تخيل الوطن من دون أقباط، فهذا نوع من الجنون، فهم شركاء فى الأرض والثروة، قدموا الشهداء دفاعا عن الأرض والهوية الدينية والثقافية.
وقال إسماعيل: كيف ننسى فؤاد عزيز غالي، قائد معركة تحرير مدينة القنطرة من الاحتلال الصهيوني، وكيف ننسى الدكتورنجيب محفوظ رائد طب النساء، القبطي الذي أنقذ مصر كلها والصعيد على وجه الخصوص من مرض الكوليرا فى القرن الماضي؟ وتابع قائلا: كيف ننسى مكرم عبيد ورشدي سعيد وفخري عبد النور وويصا واصف، والقصد هنا ليس توجيه الشكر للقبط، بل تذكير الذين جهلوا بأسماء رموزالأقباط الذين منحوا خبراتهم وحيواتهم ودمهم لوطنهم، وأعتقد أن صناع الابداع الحقيقيين عليهم قراءة التاريخ بتجرد، وتقديم قراءة صادقة لا تخضع للفكر المعادي للوطنية المصرية.
وأضاف أنه بالنسبة لمستقبل الأدب في مصر، فنحن أمام مشهد إبداع ثوري يتشكل ولا نستطيع المصادرة عليه، ولكننى بشكل شخصي واثق من أن جيل الثورة الأدبي سوف يمنح المواطنة والوطن والشهيد والحرية والتحرر الوطني مساحات أكبر، وسوف يقدم رؤية مختلفة عن الرؤية التي قدمها أدباء الختان والبحث عن الطرائف والكوميديا الفارغة من كل مضمون، وسوف يشهد الأدب المصري تحولا كبيرا يجعلنا نسقط من تاريخه، كل رواية وكل مجموعة قصصصية غازلت المترجم الغربي وحولت الأدب من محاولة لخلق وعي نقدي إلى كتابة بالمقاس مقابل الحصول على جائزة أو تكريم من هنا أوهناك.
وقال عضو المجلس الأعلى للثقافة الكاتب بهيج إسماعيل إن الفعل الثقافي ضمن المسألة الطائفية يظل تأثيره محدودا.
وأضاف اسماعيل أنه لا يرى أصلا أي أعمال ثقافية فنية بعد الثورة لا في المسرح ولا السينما ولا التلفزيون، معتبرا أن مصر في حالة “توقف ثقافي بسبب المرحلة الضبابية التي تمر بها البلاد، وأن مسألة العلاقة بين الأقباط والمسلمين تدخل ضمن هذا الإطار”.
وأعرب عن اعتقاده بأن الاحتقان الموجود في المجتمع “موجه وليس حقيقيا”، لأن المسلمين والأقباط يعيشون على مدار عقود كأخوة حتى أن أسماءهم كانت واحدة حتى فترة قريبة قبل أن تظهر الأسماء الغربية منذ فترة قريبة في أوساط الأقباط كرد فعل على التطرف الذي قابلوه من بعض المتطرفين.
واعتبر اسماعيل أن الاحتقان الطائفي “عمل سياسي” ليس بالضرورة موجها من الداخل ولكن قد يكون من الخارج لتحقيق أهداف معينة، قائلا: “ومن هنا لا نستطيع أن نواجه عملا سياسيا بفعل ثقافي لأن الثقافة عبارة عن جرعات هادئة وتأثيرها أبطأ من السياسة التي هى عبارة عن عمل يومي”.
وانتقد اسماعيل تهميش العمل الثقافي، لافتا إلى أن الثقافة تبدو خارج نطاق اهتمام الدولة أصلا.
وقالت الشاعرة والروائية الدكتورة سهير المصادفة إن الأدب العربي بشكل عام لا يستطيع أن يتجاوز الأقباط، لأنه حين يتم تجاوزهم يتم تجاوز جانب مشرق من جوانب تاريخ مصر الحضاري وتاريخ العالم، ويتم تجاوز أعمدة ثقافية مهمة يجب أن يستند إليها الأديب، ويتم تجاوز ينابيع ثقافية في المكون الإنساني بالغة العذوبة والجمال.
وقالت المصادفة إن وجود الأقباط في الرواية العربية قد يكون مباشرا ومحوريا أحيانا، وقد يكون في أحايين كثيرة متواريا ولكنه دائما موجود، والأعمال الروائية العربية حافلة بالأقباط كجزء من نسيج هذا الوطن دون تمييز ودون افتعال، فهم الجيران والأحبة والمؤثرون بشكل لا يمكن تصوره في تاريخ السرد العربي، بل في كل حكاياه وشتى جوانبه، وإذا لم يتم الالتفات للأقباط بالشكل المرجو في الأعمال الأدبية تكون القضية هنا هي عدم بلوغ الأدب العربي المعاصر درجة الرشد.
وأضافت أن تاريخ الأدب العربي منذ عتباته المهمة الأولى يتناول تاريخ القبط وشخصيات قبطية آسرة وفاتنة أنارت الآثار الإبداعية هنا وهناك. وتابعت قائلة: لا أستطيع رؤية مصر بدون أقباط، وهذا افتراض يقترب من المحال، فهم جزء أصيل وحبيب من هذا الوطن، بل هم البداية وهم أصحاب مساهمة كبرى في بناء حضارته وهويته، وهوية مصر تكاد تكون ترجمة حرفية لرسالة السيد المسيح عليه السلام فهي نتاج احتضان كل الديانات وكل الحضارات وكل الجنسيات وصهرها في بوتقة المحبة والسلام.
وقالت: أثق تماما أن هذه اللحظة المحتفنة ستكون عابرة لأنها لا تعكس روح الأديان السماوية التى تدعو كلها إلى نبذ العنف والتسامح، كما أثق تماما أن صناع الأدب دون استثناء لن يتهاونوا في الدفاع عن هوية مصر.
وأضافت ــ في الحقيقة ــ وفي أعمق أعماقي ــ لا أخشى على حرية الإبداع، فدروس التاريخ تعلمنا أن الإبداع دائما ما يجد طريقه نحو النور والخلود، وأن من يحاول أن يغلق عليه النوافذ ويسجنه هو الخاسر ــ لا محالة ــ إن كل إبداع تمت مصادرته أو كل قلم تمت محاولة قصفه تخطى هذا بسهولة بالغة وصمد وقفز عبر الزمن ليصل إلى أجيال جاءت بعده بقرون.
وقال الكاتب الروائي سعد القرش: لا أفضل استخدام مصطلح “أقباط”، وأعتبره يدل على الجنسية لا الدين، فالقبطي هو المصري أيا كان دينه.. في مصر مسلمون أقباط ومسيحيون ليسوا أقباطا، وسوف ننتهي من هذا اللغط حين نكف عن ترديد مصطلح “الإخوة المسيحيين” في سياق التهنئة بعيد ما، لأننا في المقابل لا نهنئ “الإخوة المسلمين” في مناسباتهم.
وأكد القرش فى تصريح لوكالة أنباء الشرق الأوسط أن المسيحي في الأدب والفنون عموما شخصية نمطية ملساء يسهل التنبؤ بسلوكها، لأن هناك تربصا من المسلمين والمسيحيين معا يدفع الدراما لصب المسيحي في قالب جاهز.. الطيب، الشريف، المضطهد، الصراف التقليدي، ولا ينظر إليه باعتباره بشرا يمكن أن يرتكب جريمة الخيانة العظمى مثلا.. في مسلسل (الدالي) كان من المستحيل أن يكون الخائن هو المسيحي صديق سعد الدالي، لو حدث هذا لقامت الدنيا، ولكن المشاهد تقبل بضمير مستريح خيانة ابن العم المسلم.
وأضاف: ستظل أزمة المسيحيين قائمة ما دامت الحساسية مستمرة، بالنظر إليهم كقصر أو يتامى، هم أنداد يشاد بهم حين يكون منهم رشدي سعيد أو مجدي يعقوب، ويعاقبون لأنهم ليسوا قديسين بل “مواطنين”.
وأشار إلى أن المواطنة هي الفريضة الغائبة، وكان من الممكن أن تكون المكسب الأهم للثورة لولا تواطؤ حدث في استفتاء 19 مارس دفع بالمهووسين إلى الصدارة، وبدأ الانقسام الطائفي بـ”قل (نعم)، تدخل الجنة” ثم في الانتخابات ثم في الاستفتاء على دستور لا يمثل المصريين ولا ينتمي للمستقبل.
وقال المخرج المسرحي ياسر علام إن هناك جهودا تبذل في الوسط الثقافي لوأد الاحتقان الطائفي بين المسلمين والأقباط في مصر، لكنه أعرب عن أسفه أن غالبية هذه الجهود “فردية”.
وقال علام إن هناك جهودا في هذا الصدد لفنانين من خلال تبني عملا إبداعيا روائيا يحمل قيمة التعايش وتحويل مثل هذه الأعمال من فيلم إلى نص مسرحي، لكن لا يوجد جهد مؤسسي رسمي للعمل على حل هذه المشكلة. وأوضح علام أنه “حتى على مستوى الخطاب الفني، فإن ما تحتويه الأعمال لا يقدم فكرا متطورا، لأنها تدور في فلك الخطاب الرسمي الذي لا يخرج عن الحديث العاطفي عن الشعب
الواحد، وهذا الأمر أصبح غير مناسب لذائقة متفرج هذا العصر الذي يرفض التلقين ويريد عملا يمس وجدانه”.
وأضاف: “لو قدم مبدع عملا قال فيه للناس نحن شعب واحد وعقيدة واحدة، وحين يرى المتلقي واقعا فيه ممارسات تخالف ما رسمه المبدع فسيفقد الثقة فيه، أما الأصح فهو أن نقول إننا اثنان، لكن مصلحتنا واحدة في التعايش في هذا الوطن”.
ورأى المخرج المسرحي ياسر علام أن “الخطاب الذي يقول بأن المصريين عنصر واحد معناه أن أحد الطرفين سيبتلع الآخر ويهضمه، والأوقع أن نقول نحن طرفان مختلفان، لكن علينا القبول بهذا الاختلاف لأن التعايش مصلحة للطرفين”، معتبرا أن “مدخل المصلحة أكثر فاعلية وعملية لقبول الآخر”.
وأشار علام إلى أنه نظم في العام 2006 ورشة عمل فنية ضمت أقباطا ومسلمين تحت أسم “ديفيد وجرجس وحسين .. رعب أول”، وقمنا بالعمل على أشكال العنف اللغوي الذي يمارسه كل طرف على الآخر.
وقال علام: “خرج عن الورشة نص مسرحي بمشاركة زملائي في الورشة، حمل اسمها، وكان من أنضج أعمالي وحين عرض في مهرجانات المسرح المستقل حقق نجاحا لافتا”.
وأكد علام أن “العمل الثقافي في مجال وأد الاحتقان الطائفي قائم على الجهود فردية، أما المؤسسات الرسمية فحتى حين تعمل في هذا الصدد فإنها تزيد الاحتقان”، معتبرا أن “الجهود الفردية في هذا الصدد مخلصة والمؤسسية تفتقد لأي وقال الشاعر والروائى صبحى موسى إنه على الرغم من أن الأقباط شركاء أصليون في المجتمع المصري، ولا يمكن أن تغفلهم عين مهما فكرت في تجاهلهم أو نسيانهم، إلا أن حضورهم في الأدب لا يمثل واحدا على عشرة من حضورهم في الواقع.
وقال موسى في تصريح لوكالة أنباء الشرق الأوسط: في ظني أن مرجع ذلك سببان، الأول يخص الأقباط أنفسهم، فهم لا يتيحون ثقافتهم للجميع، ويتعاملون مع أنفسهم في كثير من الأحيان على أنهم جماعة منغلقة على نفسها.
وأضاف أن الأمر الثاني -وهو ما يستحق الوقوف عنده- أن تخوف الأقباط من الكتابة عن أنفسهم ثقافيا واجتماعيا، بمعنى طرح القضايا الخاصة بهم على الملأ، جعل وجود الكتاب الأقباط على الساحة شبه هامشي، فلا عددهم يتناسب مع تمثيلهم الواقعي، ولا ما يطرحونه من أدب يتناسب مع عمق تاريخهم وكبر مشكلاتهم الإنسانية والاجتماعية.
وتابع : من هنا تبدو الهيمنة دائما لكتابات أنجزها مسلمون، على غرار “خالتي صفية والدير” لبهاء طاهر، “لا أحد ينام في الأسكندرية” لإبراهيم عبد المجيد، ولا يكاد يتضح لنا إن كان جميل عطية إبراهيم أو رؤوف مسعد من الأقباط، ويبدو أن الوحيد الذي كان مرشحا لفك هذا الطلسم المضروب على الثقافة القبطية هو إدوار الخراط، لولا أن ثقل اللغة لديه يحول دون ذلك، وهذا ما يفسر لنا حضورالأقباط بشكل أقوى في الكتابات النقدية والفكرية كغالي شكري ولويس عوض وغيرهما.
وقال الكاتب المسرحي رئيس البيت الفني للمسرح السابق السيد محمد علي إن الاحتقان الطائفي في مصر مفتعل وأن هناك من يدفع في اتجاه تغذيته من أجل إحداث نوع من عدم الاستقرار في البلد.
وقال علي إن المؤسسات الثقافية تؤدي دورها في مواجهة ذلك الأمر، مشيرا إلى أنه حين كان يتولى رئاسة البيت الفني للمسرح دعا أسقفية الشباب المرقسية برئاسة الأنبا موسى لعرض مسرحية “صرخة عمل” على مسرح السلام وهي تتناول الوحدة الوطنية التي ظهرت في ميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير، لافتا إلى أن تلك المرة كانت الأولى التي تستضيف فيها وزراة الثقافة عملا من انتاج الكنيسة.
وأوضح أنه أعاد عرض مسرحية “خالتي صفية والدير” التي تتناول موضوع العلاقات الطائفية، كما أنتج البيت الفني عرض “فيه أيه يا مصر؟” الذي تناول ذات القضية.. وقال السيد محمد علي: “أرى أني أديت دوري في هذا الأمر”.
ورأى علي أنه لا احتقان حقيقي بين المسلمين والأقباط في مصر، وأن الفتنة مفتعلة يشعلها بلطجية مأجورون لا يريد من وراءهم الاستقرار لمصر.
وشدد على أن مصر تلفظ التطرف وأن أفكار وفتاوى المتطرفين لا تلقى قبولا لدى جموع المصريين، بدليل أن كل قطاعات الشعب المصري تخرج إلى الحدائق والمتنزهات للاحتفال بعيد “شم النسيم”، والمسلم إلى جانب المسيحي.
ولفت إلى أن غالبية الحوادث الطائفية تكون شخصية ويحولها البعض إلى أحداث طائفية على خلفيات دينية. وقال: “عادة ما تبدأ أي أحداث طائفية بخلاف عادي قد يحدث بين مسلم ومسلم أو مسيحي ومسيحي، لكن سرعان ما تأخذ منحى طائفيا”. ورأى أن الاحتقان الطائفي مقصود وأن أجهزة رسمية كانت تغذيه أيام النظام السابق.
وقال الكاتب والروائي الكبير أحمد الخميسي إن أول رواية صدرت عن موضوع الأقباط بشكل صريح كانت فى عام 1905، وهي رواية “القصاص حياة” لعبد الحميد خضر، ومع أن شخصياتها قبطية، إلا أنها لا تطرح الموضوع القبطي باعتباره قضية تمييز.
وأكد الخميسي أنه بعد ذلك عرضت الرواية العربية لنماذج قبطية كثيرة لكن جاءت كلها بعيني أدباء من غير الأقباط، كما فعل أستاذنا نجيب محفوظ في الثلاثية حين عرض شخصية “رياض قلدس” وطرح القضية بوضوح في “السكرية” قائلا : “كيف يتأتي لأقلية أن تعيش وسط أغلبية تضطهدها؟”.
وتابع: لكن هناك درجة من التقصير – إذا جاز القول – من جانب إخوتنا الأدباء الأقباط الذين أحجموا في الأغلب الأعم عن تقديم وجههم بوضوح، لأسباب خاصة بحالة الوعي المتردي العام.. ومؤخرا ظهر عدد من الروايات تضع المسألة في موضعها الصحيح منها “صخور السماء” لإدوار الخراط، و”أحزان بلدنا” لمكرم فهيم، وغيرهما.. والملاحظ أيضا أن عددا غير قليل اتخذ من موضوع الأقباط مادة للارتزاق الأدبي، إذ يغازل به أوساطا محددة لنيل جائزة أو غير ذلك، وهذا أسوأ أنواع الأدب، لكن نماذجه موجودة.
وقال الأديب الكبير أحمد الخميسي: أنا لا أتخيل مصر بلا أقباط لا على المستوى الشخصي، ولا على المستوى العام والوطني.. فمنهم أصدقائي الذين نشأت معهم وأسعدتني صداقتهم، ومنهم الأساتذة الذين علمونا: الفريد فرج في المسرح، سلامة موسى في الفكر، نجيب الريحاني في السينما، خليل مطران في الشعر، لويس عوض في النقد.
وأكد الخميسى أن قضية التمييز الديني الذي يمارس ضد الأقباط مسألة مهينة ليس فقط للأقباط، لكن مهينة بالقدر نفسه لكل إنسان مصري، لأنه لا يقبل بظلم يقع على آخرين إلا العبيد.
ونوه إلى أنه بوسع المبدعين أن يقوموا بدور ما، لكنهم غير منظمين، ومن ثم تظل صيحاتهم الشريفة متناثرة هنا وهناك بدون إطار يجمعها ويجعلها مسموعة ومؤثرة، ودور المبدعين لا يجب ولا ينبغي أن يقتصر على الكتابة، يجب أن تحدث حركة، قافلة من المبدعين لا تتوقف عن التجوال في الأحياء الشعبية، بأفلام أو بمقاطع من أفلام عن الوحدة الوطنية، وبأغنيات سيد درويش وبديع خيري:”ما تقولش مصري ونصراني، ده اللي الأوطان بتجمعهم، عمر الأديان ما تفرقهم”، وبحكايات عن مكرم عبيد، وعن سجل شهداء الحروب الحافل بأسماء الأقباط جنبا إلي جنب مع المسلمين، وبمشاهد مسرحية تظهر قبح التمييز، لكنه مشروع يحتاج إلي جهة تتبناه، وأذكر أنني تقدمت به ذات يوم لوزارة الثقافة فلم يلق اهتماما، لكن يمكن وينبغي على المبدعين وبوسعهم أن يقوموا بدور مؤثر.
واختتم الخميسي قائلا: أعتقد أن الحياة الأدبية في المرحلة القادمة ستشهد تطورا إيجابيا، فقد أعادت ثورة 25 يناير الارتباط مجددا بين الأدب والمجتمع، لهذا أملي كبير أن نشهد أعمالا مختلفة، ومرتبطة أكثر بقضايا الشعب والمجتمع.
و اعترف الدكتور صلاح الرواي، الأستاذ بأكاديمية الفنون أن المثقفين لم يتصدوا بشجاعة للوقوف على جذور الخلافات الطائفية تاريخيا واجتماعيا وثقافيا، وانما وقفوا دوما عند القشور التىي غلب عليها الحس السياسى وتبريرات الأنظمة ومغازلة الطوائف حسب الأحوال.
وقال إن الاحتقان بين عنصري الأمة الآن عميق ومتجذر بل بلغ حد الداء العضال لسوء الوضع الاقتصادي والتعليمي. وأوضح أن الحل لن يكون ثقافيا فقط، بل يجب تحسين التعليم وعلاج الإقتصاد، فالصراع الآن في جوهره هو صراع اجتماعي اقتصادي دخلت السياسة فيه من خندق الصراع الدينى بالقول.. مسلم ومسيحي، سنى وشيعي، ارثوذكس وكاثوليكي، وهكذا.
وقال إنه بمواجهة الإستغلال الطبقي ستختلف الصورة ولا مدخل آخر وإن كان صعبا ولكنه المدخل الصحيح الناجز وما عداه /ضحك على الذقون/ من أي طائفة أو ملة أو مذهب. وأكد الدكتور صلاح الراوي أن الصراع ليس بين الكادح المصري المسلم والكادح المصري المسيحي، ولكنه بين الكادح المصري فى أية ملة والمستغل المصري من أية ملة.
و قال الروائي المصري رؤوف مسعد إن هناك أسبابا عديدة للشعور بالاحتقان الطائفي أولها الإحساس بعدم الأمان بمواجهة الأغلبية المسلمة خاصة بعد “كسر العهود” والمواثيق ابتداء من الوثيقة العمرية التي تم توقيعها مع البطريرك بنيامين عند دخول العرب إلى مصر، ومرورا بمواثيق أخرى مع بعض الخلفاء والولاة، ووصولا إلى “ميثاق” فيرمونت الذي وقعه المرشح للرئاسة الدكتور محمد مرسي ووعد فيه بتعيين نائب قبطي له ولم يف بالوعد.
وقال رؤوف مسعد الذي يقيم في هولندا إن هناك أيضا موقف الكنيسة باعتبارها المؤسسة الدينية “المرجعية” من المسيحيين “العلمانيين والليبراليين” الذين يرفضون سلطة الكنيسة الدينوية والسياسية” حيث” منحت نظم الحكم المصرية هذه السلطة للكنيسة باعتبارها ممثلة” للجماعة المسيحية في مصر، لكن الاتجاه السياسي والاجتماعي للكنيسة كان دائما في صف السلطة الحاكمة وظهر هذا بوضوح في تأييدها لمبارك كشخص وكحاكم وموافقتها العلنية أحيانا والضمنية أحيانا أخرى على مبدأ التوريث.
وأوضح أنه بالنسبة لنقض العهود والمواثيق والإحساس بعدم الأمان فهذا أمر ثابت في “الثقافة المسيحية” المصرية، يضاف إليه أقوال بعض “الفقهاء والشيوخ” العلنية في المساجد والميديا اتي تؤكد “غربة” المسيحي المصري وسط محيطه الإسلامي بعدم تهنئته في أعياده الدينية أو مبادرته بالتسليم عليه ..الخ واعتباره مواطنا “درجة ثانية”.
وذكر أنه يضاف إلى ما سبق انتشار شائعات لا صحة لها تؤدي في النهاية إلى حرق كنائس أو محاصرتها بحجة اختفاء “مسلمة” اختيارا أو قسرا داخل كنيسة تحت دعاوى تنصيرها، أو نشوب مقتلة بين المسلمين والمسيحيين لأسباب بالغة التفاهة (كحرق قميص مسلم في محل للكواء يمتلكه مسيحي) أو رسم صبية “غير محددين دينيا” صليبا نازيا معقوفا على مركز ديني إسلامي، كما حدث أخيرا.
ولاحظ الروائي رؤوف مسعد أن “الوثيقة العمرية” كانت تنص على احترام المسلمين لدور عبادة المسيحيين” وعدم أخذ الجزية من الرهبان ورجال الدين، لكن مع الزمن” تمت جباية الجزية من الرهبان، بل إن بعض الخلفاء أمر بجباية الجزية من “أموات” الأقباط (انظر: مصر في فجر الإسلام د. سيدة إسماعيل الكاشف، أستاذة التاريخ الإسلامي كلية بنات جامعة عين شمس مكتبة الأسرة 1999) وما أوردته هنا هو مثال واحد من عدة أمثلة في المرجع السابق .
وأضاف أن ذلك حدث على الرغم من أن القرآن الكريم ينص على أنه “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة الذين قالوا إنا نصارى ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون” (المائدة). وقال إن الأمر الآن في مصر- خرج عن كونه خلافا تكون مرجعيته الكتب المقدسة وملحقاتها من الأحاديث والتفاسير” إلى صراع “هوية” يتمسك به المسيحيون قبل المسلمين، خاصة أن وثائق الهوية تنص على إثبات “ديانة” حامل الوثيقة، وهي وثيقة هوية قد تكون قاتلة”، مثلما قال أمين معلوف في بحثه “هويات قاتلة”. فالمسيحي المصري، مثله مثل المسلم المصري، يضع ديانته واعتقاده الديني في محل عال مساو لقيمة الوطن وأحيانا أكثر منه أهمية .. بالتالي نجد أن التعصب موجود بقوة في الطائفتين .. ولا صحة هنا لما يقال من تبرير أو تفسير انفجار الاحتقان الطائفي في مصر بأنه نتيجة مؤامرةمن أعداء مصر” في الخارج أو الداخل .. انه احتقان متوارث عبر أجيال وأجيال.. يختفي أحيانا تحت الرماد ليستعر لأتفه الأسباب.
وأضاف أنه على الجانب الآخر فإن “محافظة” الكنيسة المصرية السياسية والاجتماعية خاصة فيما يتعلق بالطلاق، حدت ببعض المسيحيين إلى تغيير ديانتهم.. لكن الدولة قيدت ذلك، إذ أوكلت إلى “رجال الدين” من الطائفتين “امتحان” الراغب في التغيير إن كان مسيحيا أو (في النادر مسلما) وهي بالتالي أحالت الأمر مرة أخرى إلى المؤسسة الدينية من الناحيتين ونفضت يدها عن “حق المواطن ” في الاعتقاد.. وهكذا يجد المواطن المسيحي نفسه بين شقي الرحى ..الدولة من ناحية ومؤسسته الدينية من ناحية أخرى فيجأر بالصراخ طالبا العون من الأجنبي، وهنا تواجهه تهمة العمالة أو على الأقل “الاستقواء” بالخارج.
و قال الروائى الشاب أحمد عبد اللطيف إن الرواية العربية لم تتناول بشكل جاد حياة الأقباط، بالعكس أراهم مهمشين في العمل الإبداعي، ومع أنني أرفض تصنيف الإنسان بناء على دينه أو عرقه، إلا أنني أرى أن الكتاب الأقباط أنفسهم لم يهتموا بتناول هذه القضية.
وأضاف عبد الطليف لا أريد عملا ابداعيا يقدم تقريرا اجتماعيا عن حياة الأقباط، بل عمل فني، مكتمل الجماليات والفنيات، ولا عيب في ذلك لأن أدب الأقليات موجود في كل العالم. ونوه إلى أن أساس الدولة المدنية هو استيعاب كل الأديان والثقافات في أرض ما، وليس من حق أحد أن يفكر مجرد تفكير في التخلي عن مصريين لسبب ديني أو عرقي.. سأرد عليك بسؤال آخر: كيف ترى الوطن بدون مسلمين؟ كيف ترى الوطن بدون نوبيين وسيناويين وسيويين؟
وأكد أنه واجب صناع الإبداع في كل زمان أن يدافعوا عن التسامح، والتعايش، خاصة أن آفة بلدنا التعصب، وأعتقد أن الإبداع في الأيام القادمة سينشط في هذا الاتجاه، فكلما زادت الفتاوى الدينية المتعصبة، كلما اتجه الناس إلى لترابط، والإبداع سيكون في المقدمة، وأعتقد أنه سيسخر جمالياته بشكل غير مباشر ليقدم فنا دون أي رسالة موجهة وسيحمل مضمونه التسامح.