بداية ، لا أستطيع أن أخفي السبب الحقيقي الذي جعلني أكتب عن ( نعمة الانتقاد ) عند هذا الإمام العظيم ، فقد أثّر في شخصي وفكري فأصبح النقد أحد أهم أدوات منهجية حياتي في السلوك والعلم ، فضلاً عن أن خطوات قدمي تتشرف على الأقل مرتين أسبوعيا باقتفاء مكان مسيره رحمه الله في نفس الطريق الذي كان يسافر منه وبخاصة عند المرور من على محطة قطار إيتاي البارود – بحيرة
ولد الإمام ( محمد عبده حسن خير الله ) سنة 1849م ، ونشأ بقرية محلة نصر مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة ، في أسرة تمثلت فـي كثرة رجالها ، وتجسد جاهها في مقاومتها ظلم الحكام لعدة أجيال ، مما جعلها تقدم العديد من التضحيات والضحايا . وقد تلقى محمد عبده تعليمه الأولي للقراءة والكتابة بطريقة منزلية ، ثم بدأ بحفظ القرآن الكريم وهو في سن السابعة من عمره . وقد بدأ محمد عبده في تلقي أولى الدروس في التعليم الأزهري بالجامع الأحمدي سنة 1864م ، لكن عقم أساليب التدريس صدته عن مواصلة الدراسة فهجرها عائداً للقرية بعد عام واحد ونصف ، وفي توضيح ذلك العقم في أساليب التدريس يقول الإمام : ( وبدأت بتلقي شرح الكفراوي على الأجرومية بالمسجد الأحمدي بطنطا وقضيت سنة ونصفاً لا أفهم شيئاً لرداءة طريقة التعليم ، فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لا يفهمها ، فأدركني اليأس من النجاح وهربت من الدروس )
وقد كان والده حريصاً جداً علـى أن يدفعه دفعاً ويحرمه من بعض المتع التي يسعى إليها أمثاله ، ويزعجه عن الاستقرار في البيت بعد الزواج ليسعى لإكمال تعليمه ، وفي ذلك يقول الإمام محمد عبده : ( بعد أن تزوجت بأربعين يوماً ، جاءني والدي وألزمني بالذهاب إلى طنطا لطلب العلم ، وأصحبني والدي بأحد أقاربي وكان قوي البنية شديد البأس ، ليشيعني إلى محطة (( إيتاي البارود )) التي أركب منها قطار السكة الحديد إلى طنطا ) . لكنه احتال على الفرار من هذا الرجل القوي البنية ، وتحقق له ما أراد فهرب منه إلى قرية أخوال أبيه ( كُنيّسة أورين ) وهناك التقى بأحد أخوال أبيه وهو الشيخ درويش خضر وكان صوفياً شاذلياً محباً للعلوم والقراءة في مختلف فروع العلم
ولقد عَمُق أثر هذا الشيخ في نفس الإمام وعقله ، حيث يقول عنه : ( وأخذت أعمل على ما قال فلم تمض علي بضعة أيام إلا وقد رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير الذي كنت أعهد ، واتسع لي ما كان ضيقاً ، وتفرقت عني جميع الهموم ، ولم يبق لي إلا هم واحد وهو أن أكون كامل المعرفة كامل الأدب ، ولم أجد إماماً يرشدني إلى ما وجهت نفسي إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة ، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد . هذا هو الأثر الذي وجدته في نفسي من الشيخ درويش خضر، وهو مفتاح سعادتي إن كانت لي سعادة في هذه الحياة ، وهو الذي رد لي ما كان غاب من غريزتي ، وكشف لي ما كان خفي عني مما أودع في فطرتي ) . وقد ظهر أثر الشيخ عملياً على محمد عبده حيث عاد إلى المسجد الأحمدي بطنطا لطلب العلم فيه مرة أخرى ، ثم انتقل إلى الجامع الأزهر في القاهرة ، وحصل على العالمية سنة 1877 ، ثم عين مدرسا للتاريخ سنة 1878 ، ثم تعرضت حياته لاضطرابات كثيرة بين النفي إلى بيروت ثم السفر إلى أوروبا ، ثم تولى منصب مفتي الديار المصرية سنة 1899م . وبعد حياة حافلة بالإنجازات الإصلاحية التجديدية في المجالات الفكرية والعلمية والحياتية الأخلاقية لقي الإمام محمد عبده ربه عندما صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها في الساعة الخامسة من مساء يوم الاثنين 7 جماد الأولى سنة 1323هـ الموافق 11 يوليو سنة 1905م بمدينة الإسكندرية وهو في السابعة والخمسين من عمره
أما عن قضية ( النقد الديني ) فقد كان الإمام محمد عبده صاحب فكر نقاد وقول جريء صائب ، كما كان في إصلاحه الهادي المرشد والمصلح العامل المجد ، ولقد أعطى الإمام لتعريف النقد بعدا ( روحيا إلهيا ) عاليا ، حيث يعرفه بقوله ( الانتقاد نفثة من الروح الإلهي في صدور البشر تظهر في مناطقهم سوقاً للناقص إلى الكمال وتنبيهاً يزعج الكامل عن موقفه إلى طلب الغاية مما يليق به ، الانتقاد قاصف من اللائمة تتنفس عنه القلوب لتقريع الناقصين في إهمالهم ورفع طلاب الكمال إلى منتهى ما يمكن لهم ) . ويؤكد الإمام على أن النقد ( ملكة لا تصدر إلا عن عقل متميز تنبه صاحبها دائماً إلى طريق الصواب والحق وتجعله يفرق في أحوال الآخرين الحسن من القبيح ، لهـذا وكّل الله بالعقل منبهاً لا يغفل وحسيباً لا يهمل وحارساً لا ينام ، يزعج الواقف ويحس المتريث ويمسك الواجف ، ذلك الواعظ الحكيم المؤدب العليم هو الانتقاد ) . وهكذا جعل الإمام النقد كأنه إنسان حكيم يمشي فيهدي الناس !
ثم يقسم محمد عبده الناس وفقاً لمنهجهم في النقد إلى طوائف فيذكر منهم :
1 – المفرطون في الوفاء للأصدقاء وهم يذكرون مناقب من ينقدوهم دون ذكر مثالبهم . 2 – رقباء النقائص وجواسيس العيوب وهم الذين يذكرون سيئاتهم ويسكتون على حسناتهم ويدخل في هؤلاء الحساد وأهل الأحقاد . 3 – أصحاب النظر والموجهين وهؤلاء يضعهم الإمام في أعلى المنازل لأنهم يذكرون ما في الإنسان أو الشيء من أوجه الكمال ومـن أوجه النقص ، ويدخل في هؤلاء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله . 4 – الفاسقون وهم الذين يكتمون ما يعرفون ، ويهرفون ( أي يهذون أو يقولون كلاماً لا معنى له ) بما لا يعلمون وهؤلاء يضعهم الإمام في أخس فئات الناس
أما عن فوائد النقد وأهميته ومآسي تجاهل قيمته وعدم تفعيل دوره في الحياة والفكر والعلم ، فإن الإمام يؤكد أنه لا صلاح للأمة إلا من خلال كشف عيوبها ومواطن الضعف فيها ولا يتم ذلك النهوض بها إلا من التمسك بالنقد كوسيلة لرقي الشعوب والإصلاح والتجديد ، وأما من يهمل النقد فإن ذلك في رأي الإمام ( جرم عظيم ) وهو سبب كل بلاء للأمة حيث يقول : ( وأما سبب بلاء الأمة فإن قوماً كفروا بنعمة الانتقاد فوقفوا عنه أذهانهم وعطلوا من ناحيته سمعهم وضربوا بينهم وبين أهل النقد حجباً ، وخيل لهم الجهل أن صممهم عنه يقيهم منه وهم كالطير إذا رأى الصائد غمس رأسه في الماء ظناً منه أنه متى أغمض عن طالبه أغمض الطالب عنه فيكون بذلك قد يسر للصائد صيده وسهل عليه كيده ، ومن ثم نجدهم في عمى عن شئونهم وتخبط في أعمالهم وهم في غفلة بل لا يشعرون ) . أرأيت كيف جعل الإمام عدم تفعيل النقد ( كفرا بنعمة ) عقلية أعطاها الله لنا ؟!!
رحم الله إمامنا العظيم محمد عبده ، وليتنا نستفيد من ارتفاعية تناول النقد عنده فنفعّله في حياتنا بشكل ( موضوعي ) قدر استطاعتنا ، ولا نترك لوجداننا المجال فسيحا يتحرك فيه بحسب ( الحُب والكُره ) لمن نرجو مصلحته أو لمن نبتغي دفع مضرّته