Breaking News

د. مصطفى شاهين يكتب… “الشباب وفهم الفكر الديني..”

الفكر عامة هو فهم كلمات في نصوص تحاول إيصالها بفهمك للآخرين . والكلمة شيء خطير ، يعرف خطورتها من يُقدّر وقع كلماته على آذان غيره ، ويدرك مغزاها وأهدافها . ودع عنك من يطلقون الأقوال على عواهنها غير مبالين من أين ولمن ولماذا يطلقون أقوالهم . وأصدق دليل على خطورة الكلمة حين تُطلق على غير اهتمام ، أنها كما ذُكرت في الحديث النبوي قد تهوي بقائلها في النار سبعين خريفاً لمجرد أنه يقولها لا يُلقي لها بالاً ( أي اهتماماً ) ، أو حين يقولها لمجرد أنه يريد أن يضحك بها القوم . وكما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( وهل يكب الناس على مناخيرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم ) ، يعني بالكلام فـي الحرام والشر والكذب ، وترويج الإشاعات بالوقوع في أعراض الناس وتشويه سمعتهم ، وغيبة الناس وبهتانهم ، والنميمة عليهم والفتنة بينهم ، والاستهزاء بهم والسخرية منهم ، وإضفاء شرعية على الحرام أو تحريم الحلال ، وغيرها من صور شرور الكلام في حصائد اللسان 
 
هذه مقدمة أراها ضرورية وذات صلة وثيقة بموضوعنا الذي نتحدث فيه . وحديثنا موجه بالدرجة الأولى إلى الشباب وفي موضوع ذي أهمية خاصة بالنسبة لهم ، موضوع بدايته الإيمان وظهور آثاره الطيبة على الجوارح والأركان ، ونهاية خاتمته بكيفية التعبير عن هذا الإيمان بلغتهم أو بالأصح بما فهموه من هذا الإيمان وبما تدينوا به 
 
والشباب لا تخطئهم عين الكبار حين تراهم ، وقد يخطئ عقلهم ( أي الكبار ) حين يريد أن يفهمهم ( أي الشباب ) !! . ليس لأن عقل الكبار لم يكن يوما ما عقل شباب ، بل لاختلاف مفردات الشباب في يوم زمانهم الحالي اللحظي الآني ، واختلاف ظروف عصرهم وإمكانات حياتهم عما كان لدى الكبار من قبل في عصور شبابهم الماضي . فكيف لأولئك الآن أن يلاحقوا هؤلاء ، كما كانوا زمان ؟!! لكن الكبار على كل حال يُعَزّون أنفسهم بقولهم ( ليت الشباب يعود يوما …. ) ! . وما من شيء أعظم في هذا المضمار من محاولات الفهم التي يسعى بها ولأجلها الكبار إلى الشباب ، فتصيب حيناً وتفشل أحياناً . وتقربهم من بعض حيناً وتبعدهم عن بعض أحياناً . ويا روعة القرب حتى لو كان حيناً ، ويا لوعة البعد حين يكون أحياناً 
والحقيقة أن الشباب كان مُتّهماً إلى وقت قريب بكل أنواع الاتهامات تقريباً ، لدرجة أنه قيل وقتها إن الشباب ما عادوا يستطيعون حتى الوقوف على أقدامهم ، وما عادت تبصر أعينهم إلا ما يوضع في أفواههم أو ما تشمُه أنوفهم . وذلك في دلالة واضحة على حالة الخمول والتخدير بل الضياع الصحي والسياسي وحتى التديني التي سيطرت عليهم . لكن في غفلة من الكبار ومن قوانين الزمان والاستقرار ، انتفض مارد الشباب وفاجأ الكبار بما لم يتوقعوه وكانوا من قبل قد عجزوا عن تحقيقه ، وهو الثورة على دِول الكبار أو بالأصح الثورة على ( دول العواجيز ) في كل أنحاء الوطن العربي المسلم تقريباً . وإذ بالكبار يهتفون ( ألا بورك في الشباب الطامحينا ) الذين حطموا قيود الخوف وأزالوا عروش الظلم والقهر والاستبداد 
 
لكن كل إيجابيات الثورات الشبابية لا يمكنها أن تجعلنا نتغافل عن حقيقة أن الشباب سريع التأثر بالأفكار والتقاليد الجديدة بل والغريبة أحياناً . صحيح أن الشباب لديهم الحمية الدينية ورغبة التمسك بسلوكيات الدين ، لكن تقل عندهم الخبرة في كثير من الأمور وبخاصة ( خبرة الإيمان ) . فالإيمان يحتاج إلى خبرة ، مثله مثل الأعمال الحياتية الجادة ، إن لم يكن هو أهم منها . وتبدأ خبرة الإيمان عندما يتمكن الإيمان بأصوله والإسلام بأركانه من شغاف القلب . فيصبح التدين ليس مجرد حركات جوارح بل أيضا وعي وفهم وإدراك ، وتعبير باللسان عن ذلك كله . وعلى الرغم من قلة خبرة الإيمان لدى الشباب ، فإنهم أكثر استعداداً للتغيير حتى في المجال الديني ، بل إنهم أكثر استعداداً لاستخدام اليد والقوة في سبيل هذا التغيير . ولو استطاع الشباب أن يجتهدوا في سبيل التمكن من خبرة الإيمان لتوازنت عندهم الأمور الإيمانية والحياتية أيضاً . وسيكون رائدهم في ذلك مبدأ الوسطية الديني الرائع 
   
وأول ظهور لعلامات خبرة الإيمان لدى المتدين هو السلوك المعتدل المقترن بالتفقه في الدين والتفكر فيه ، وعدم التعصب بل عدم الانتماء أصلاً لمذهب محدد أو جماعة معينة ؛ لأن هذا الانتماء فضلاً عن التعصب سيقف ضد الحرية والاستقلالية في الفكر والبحث ، وسيجعل المنتمي أو المتعصب مدافعاً دائماً بأي وسيلة عن مذهبه وجماعته ، منتصراً لهما بكل قوته الجدلية . وأخطر ما يكون في هذا المجال أن تتحول أصول المذهب أو أقوال وأفكار علمائه لدى أتباعه إلى عقيدة تتساوى في قلبه مع العقيدة الإيمانية الأصلية ، فتجده يحب من يقول بها ، ويعادي من ينكرها أو من لا يعتقدها 
   
 ويجب أن يكون الفرق بين الدين والفكر الديني واضحاً لدى المتدين ، فهذا يعد من البديهيات في طريق التدين ، حيث أن الدين يُبنى على مصادر نصية ( القرآن والسنة في الإسلام ) ، ثابتة صدقيتها في نفس المتدين ، وهي نصوص مقدسة لابد أن يؤمن بها ويعمل بتعاليمها ، وليس له حرية ترك شيء مما فيها . أما الفكر الديني فهو تعبير من السابقين عن ما فهموه من النصوص ، ثم تعبيره هو الحالي بالكلام عن فهم النص أو الأمر الديني  وهذا الفكر قديمه وحديثه ليس مقدساً ولا ملزماً لأحد 
   
 وقد يشترط في المفكر الديني المسلم أن يكون على دراية بالقرآن والسنة النبوية والاجتهاد والقياس وعلوم اللغة العربية وغيرها التي حددها كثير من العلماء ، وقد أشترط ألا ينتمي إلى أحزاب أو مذاهب أو جماعات ، وأن يكون موضوعياً في تناوله للأمور وفي حكمه على المراحل السابقة في تاريخ التدين . فضلاً عن أن يكون قدوة في سلوكه وأفعاله بحيث تتوافق تصرفاته مع آرائه وأقواله . ولابد أن يقـر دائماً بأن آراءه ليست لها صفة القداسة ، ولا حجية في التزامها من أحد أو إلزامها على أحد ؛ فكل قول يؤخذ منه ويرد إلا قول المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم . وإنما تُقبل أقوال المفكر الديني إذا كانت تحمل في طياتها مبررات الاقتناع بها ، وتُرفض إذا كانت غير مقنعة . وفي كلتا الحالتين لا دخل لليد أو القوة في القبول أو الرفض ؛ حتى يظل العقل الإنساني ملتزماً بما ألزم به نفسه من الخضوع لقوة الحجة والدليل والبرهان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *