المشكلة ليست فى مبدأ قبول النقد وإنما فى ماهيته وليست فى تقديس الأئمة والفقهاء وإنما فى توقيرهم وليست فى إزالة ما شاب التراث من خرافات وإنما فى تحديدها.. المشكلة ليست البحيرى وإنما الفوضى التى يتبناها والقضية ليست رفض التجديد وإنما هى صلاحية من يجدد.
علماء الشريعة حينما اعتمدوا منهج التصحيح والتضعيف لكل قول أو فعل يُنسب إلى الشارع إنما انطلقوا من الهدف ذاته الذى يروج (البحيرى) على البسطاء دفاعه عنه.. والمفارقة المضحكة أن البحيرى وإبراهيم عيسى وغيرهما يعتمدون ألفاظ المحدثين، والفقهاء وأئمة علوم الجرح والتعديل فى التسفيه من شأن تراث هؤلاء والدعوة إلى نسفه وتحريقه.. المفارقة العجيبة أن لسان البحيرى وعيسى والقمنى استقام له النطق بألفاظ من أمثال: موضوع، ضعيف، منقطع، مرسل وهو الذى يطلب حرق مصادرها.
أصر الشيخ أسامة الأزهرى فى المناظرة الشهيرة أن يُظهر لجماهير المتابعين جهل مناظره وتسوره على البناء العلمى الهائل وهو الذى ــ لفرط غروره ــ يحسب الإمساك بزمامه وخطامه.. أصر فى أكثر من مشهد يكفيك منها استفهامه من (البحيرى) عن طريقة النطق الصحيحة لاسم عالم شهير يستدل به البحيرى، ولا يعرف ضبط اسمه، فكيف سيضبط نطقا وفهما واستنباطا لنصوص كاملة؟ يستفهم منه عمّن نطق البحيرى اسمه بـ«أبوزَرعة» بفتح الزاى، وهو الخطأ الفادح عند من له أدنى اطلاع الكفيل بالحكم جملة وتفصيلاً على منهج البحيرى كله.. يستفهم منه مرة واثنتين، وثلاثة، والبحيرى مصمم على النطق الخطأ فيصححه الأزهرى بمنتهى البساطة.. اسمه «أبوزُرعة» بضم الزاى!
ما المنهج الذى يسعى البحيرى وغير البحيرى لتمريره؟ أن يحكم كل إنسان ٍعلى نصوص القرآن بذائقته الشخصية مهما تنوعت الخلفيات الثقافية وتباينت أنواع العلوم والمعارف وتعددت الألسن واللهجات.. حسنا فليكن، سنفترض ــ فقط مجرد الافتراض ــ أنّ الأمة فى مجموعها ارتضت هذا المنهج ــ إن صح أن يُوصف بذلك ــ فلماذا ننكر على «داعش» مثلاً أن تطبق المنهج ذاته فى تذوقها وفهمها لآيات القرآن؟
واضح أن ذائقة البحيرى لا تبحث إلا عن كل (تحرر) من أى (قيد)، وبما أن الشرع يتلخص مفهومه الواسع فى (افعل ولا تفعل) فسيسعى الرجل إذن بكل ما أوتى من قدرة على لى أعناق النصوص ليبحث دائما عما يحرره من سطوتها ووضوح أمرها أو نهيها.. مستعينا بلغته العربية الركيكة وطريقة استدلاله اللامنطقية وسوء أدبه الهائل وجنون العظمة الضارب فى أعماقه.. وكلها مؤهلات تمنحه الحق فى تفنيد نصوص التراث بلا شك!
ولماذا ننكر على داعش إن اعتمدت المنهج نفسه المتحرر من أى قواعد علمية؟ هم قد فعلوا الأمر ذاته مع نفس نصوص الشرع التى تناولها البحيرى بذائقته، لكن بذائقة ٍمختلفة يغلب عليها السادية وتطرف المشاعر وعنف النزعة، بحثوا عن كل آية ٍقرآنية تفسرها ذائقتهم المختلة بالدعوة إلى التخريب والهدم وحرق الأحياء فاعتمدوها شعارا.. الصبى منهم لا يتجاوز العشرين من عمره لا يحفظ إلا (جئتكم بالذبح) ولم يسمع (اليوم يوم المرحمة).. القائد منهم يحرق الأسير حيا استجابة لأهواء سادية شيطانية ثم يبحث لها بعد ذلك عن دليل من الشرع وفق نفس الذائقة المضطربة.. فما الفارق؟