ما يجعل محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل، المولود بمركز قفط بمحافظة قنا في صعيد مصر عام 1940 والمتوفي يوم 21 مايو لعام 1983، خالد الذكر في ذاكرة الأدب العربي هو ما قدمه من تجربة شعرية رافضة أصيلة ومتحققة. رفضا للهزيمة أو تقبلها .. ورفضا للانسحاق في اغتراب داخلي يجردنا من أحساسنا بأي معنى من معاني الوطن.
وإن كان الاحتفال بذكرى الوفاة مناسبة حزينة تخص الأقارب والمفجوعين بفقده، ويرجح العقل أن تكون الأولوية دائما للاحتفاء بذكرى ميلاد المبدعين وظهورهم في حياتنا، فسنجعل تذكر وفاة دنقل (التي حلت أمس) على طريقته .. بكائية لتجربة قديرة ومعنى للحياة يستحق التأمل.
-الجنوبي .. “من طلعته راجل”
في بداية الفيلم التسجيلي “ذكريات الغرفة 8″ الذي أخرجته عطيات الأبنودي عن أمل دنقل، تقول والدة الشاعر بعد وفاته ” كان من طلعته راجل .. طلع معايا راجل.. ما حسسنيش أنه طفل أو صبي “.
ولا دلالة أقوى من أن تكون هذه هي كلمات الأم عن الأبن بعد وفاته، لتشير إلى الإحساس بالمسئولية المتأصل في نفس الشاعر، ووعيه العميق بكينونته.
يقول أمل في قصيدة الجنوبي:
“-هل نريد قليلاً من الصبر ؟
-لا ..
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة و الأوجه الغائبة”.
-لا رثاء ولكن بكائيات
عمل أمل دنقل على إبراز موقف مغاير عمن قبله من الشعراء ومن أبناء جيله الذين احتفوا بالرموز والأساطير الغربية والإغريقية في التعبير، حين اتجه إلى التراث العربي.. وتخطى فكرة أغراض الشعر القديمة وتحويل بعضها إلى المعاصرة، فكتب البكائيات في مقابل الرثاء القديم.. كان أهمها قصيدة “الموت في لوحات” و “الجنوبي” والتي بكى فيها ذاته في من فقد من رفقاء.
-“ضد من؟”
“ومتى القلب في الخفقان اطمئن؟”
يقف أمل دنقل أميرا لشعراء الرفض، وليس الأمر -فقط- موقفا سياسيا أو التزاما بأفكار محددة في مواجهة أخرى سائدة.. لكنه يعلن من خلاله عن قلق وجودي حقيقي طرأ على الوجدان المصري في فترة كان هذا القلق صيحة عالمية تأخذ مكانها في عقول الجميع.
والقلق هو ما خلق حالة الرفض لدى الشاعر، فلم يوجه اتهامه لشخص أو لفكرة. وهذه القضية الكبرى كان لها مكان في قصائد أمل وإن ظهرت بشكل أكبر في ديوانه الأخير “أوراق الغرفة8”.
-لا تصالح .. فكلها مصالح
كانت رائعته قصيدة “لا تصالح” احتفاءا بالقيم في مقابل سياسات عصر الانفتاح التى اتسمت ووسمت كل من تماشى معها بالاستهلاكية والتسليع.. فكانت صيحة أمل في مواجهتها، ومحاولته رد السلوكيات والأفكار إلى ما رأى أنها منابعها الأولى :
“أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهما
هل ترى؟!
هي أشياء لا تشترى”.