أقاوم هذا الخوف اليومى اللعين على أمن واستقرار وسعادة أسرتى وعلى سلامتى الشخصية الذى قد يدفعنى إلى الصمت عن المظالم والانتهاكات التى تتراكم لتحاصرنا من كل جانب، أو إلى تجاهل الضرورة الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية التى يمثلها التضامن مع الضحايا والانتصار لحقوقهم، أو إلى مقاربة تناول المظالم والانتهاكات بميكانيكية المهمة التى يتعين الاضطلاع بها ﻹبراء الذمة والاحتفاظ بشىء من المصداقية والأهم بهدف التخلص من العبء النفسى الذى تنتجه.
فأوظف هذه الزاوية مرة واحدة فقط للكتابة عن حالات الاختفاء القسرى المتكررة لمصريات ومصريين من الشباب، ثم أعهد بالأمر إلى خانات النسيان تطويه دون أن تكون مصائر بعض المختفين قد عرفت ودون أن تكون استعادتهم لحقوقهم وحرياتهم قد تمت ودون أن تكون إجراءات مساءلة ومحاسبة المتورطين فى هذا الانتهاك المروع قد حدثت. أو كأن أكتب على نحو متقطع عن أحوال من سلبت حريتهم ويقبعون خلف الأسوار. إن من المعلومة أسماؤهم للرأى العام أو أصحاب الأسماء غير المعلومة إلا لذويهم وللمحامين المكلفين بالدفاع عنهم، ثم أعهد هنا أيضا بالأمر إلى خانات النسيان تطويه.
أقاوم هذا الخوف اليومى اللعين على أمن واستقرار وسعادة أسرتى وعلى سلامتى الشخصية الذى يلح على لطرق أبواب منافى العمل والحياة والحرية فى الخارج مجددا، وللبحث عن ملاذ آمن نلتحق فيه أنا وزوجتى وابنتنا ناديا بولديى لؤى ونوح، ونلم شمل أسرة لم تكن وضعيتها بالسهلة خلال السنوات القليلة الماضية ــ شأننا شأن بعض الأصدقاء الذين نفذوا أو فرض عليهم غول التهديدات القمعية أو سيف العقوبات الغيابية تنفيذ سيناريو «الابتعاد المؤقت» وانسحبوا من الشأن العام المصرى، أو قرروا مواصلة الاشتباك مع قضاياه عبر التعبير الحر عن الرأى ويجتهدون قولا وكتابة عن بعد فى المطالبة السلمية بإيقاف المظالم والانتهاكات وفى طرح رؤى وأفكار نقدية حول سبل وتحديات وفرص استعادة مسار تحول ديمقراطى وتنمية مستدامة لمصر والتأسيس لمنظومة متكاملة للعدالة انتقالية على نحو (كما سجلت من قبل) يثرى نقاشاتنا المحلية ويكشف بتحرره من الخوف اليومى بعض أوجه قصورها الجوهرية.
ثم ألفى ذاتى فى معية هذا الإلحاح مستدعيا لكل ما هو جميل فى مصر، ومؤكدا لكل من حولى بأن المظالم والانتهاكات مآلها الوحيد هو التوقف والمحاسبة الجادة للمتورطين فيها وبأن واجبنا هو الصبر والامتناع عن الانسحاب من الشأن العام، ومقللا من أهمية الصعوبات الأسرية ومتفائلا بقدرتنا على تجاوزها، ومبالغا فى خطر التداعيات السلبية «للخروج من مصر» كالتورط فى ممارسة العنف اللفظى والفكرى المتصاعد إزاء الأوضاع المصرية واختزالها إلى المظالم والانتهاكات والسلطوية الجديدة وجميعها أمور تستحق الإدانة والوقوع فى أسر مقاربة «الرفض الشامل» والتى ليس لها إلا أن ترتب المزيد من بارانويا الخوف من الوجود فى مصر والمزيد من الاستسلام لحياة منافى العمل والحياة والحرية بعيدا عنها ــ والكثير من هذه التداعيات السلبية يصيب بالفعل كتاب ومفكرى وأكاديميى المنافى، وعادة ما تبدأ دوائره اللعينة إما بتوظيف تصعيد العنف اللفظى والفكرى كأداة لإلغاء المسافات الفاصلة بين أوضاع الوطن وبين الكاتب/ المفكر/ الأكاديمى المقيم فى الخارج ولتعويض بعض نواقص المصداقية التى حتما يرتبها «الابتعاد المؤقت» أو بتوظيف مناخات الأمن والحرية المتاحة فى المنافى للإشارة إلى كل أوجه القصور فى النقاشات المحلية كمسئولية ضميرية بامتياز وكواجب إزاء ضحايا المظالم والانتهاكات المفروض عليهم الصمت فى الداخل أو بتوظيف مقاربة «الرفض الشامل» كاستراتيجية للاعتذار اليومى من الضحايا عن «الابتعاد المؤقت» وللتضامن الكامل معهم وللتوقف عن «جلد الذات» بسبب الوجود فى المنافى.
وبين إلحاح ذلك الخوف اليومى اللعين على طرق أبواب المنافى وبين العمليات الذهنية الأخرى التى سرعان ما تخيفنى أيضا من الانجرار إلى سيناريو «الابتعاد المؤقت» ــ على الرغم من تقديسى للحق الشخصى فى البحث عن الأمن والسعادة وخالص احترامى وتقديرى للأدوار التى يضطلع بها بعض كتاب ومفكرى وأكاديميى المنافى من غير المستتبعين ومن غير المختزلين لفعلهم فى مكارثية المزايدة الرديئة على المختلفين معهم، تستمر مراوحتى فى مكانى دون قرار حاسم على نحو يرهق أسرتى ومحيطى الشخصى والمهنى، وتتواصل مراوحتى بين رفض الصمت عن المظالم والانتهاكات وبين التورط فى الكتابة الميكانيكية عنها ﻹبراء الذمة وإراحة الضمير، ولا تتوقف مراوحتى بين توظيف المفاهيم القاطعة لإدانة عقوبة الإعدام وجريمة التعذيب وطغيان المكون الأمنى وحكم الفرد فى سلطوية مصر الجديدة وبين التحايل على الظلم الذى يحاصرنا بمفاهيم رمادية لا مضامين حقيقية لها نتيجتها الحتمية الوحيدة هى فقدان القدرة على التفكير المستقل وعلى التعبير الحر عن الرأى.