ليست وظائف مقالات الرأى، حين تأخذ كتابتها بجدية وتبتعد عن السقوط فى غياهب التبعية لرغبات وتوجيهات الحكام وأجهزتهم الأمنية والاستخباراتية وتجتهد للحفاظ على الاستقلالية وتمتنع عن التورط فى أدوار الأبواق وفى إماتة النقاش العام بتغييب الحقائق والمعلومات، أن تتحول إلى ما يشبه برقيات التهنئة وإشعارات الشكر والعرفان للحكام حين يعلن عن إنجاز مشروعات كبرى ذات أهمية للصالح العام أو أن تختزل فى صياغات لغوية تستند إلى أفعل التعظيم للإشادة بصنيع «الأبطال المنقذين» وبأفعالهم المجيدة التى تعادل إن لم تتفوق على انتصارات الماضى البعيد والقريب.
ليست هذه وظائف مقالات الرأى، أولا، لأن المشروعات الكبرى، شأنها هنا شأن المشروعات الصغيرة والمتوسطة التى يراد منها تحسين معدلات الأداء الاقتصادى والحد من الأزمات الاجتماعية كالفقر والبطالة والتهميش والانفتاح على فرص حقيقية للتقدم والتنمية المستديمة، تستأهل توثيق الحقائق والمعلومات المحيطة بها والمرتبطة بتفاصيلها وتستأهل أيضا التناول الموضوعى والمعالجة النقدية لتكلفتها وعوائدها المتوقعة وتداعياتها الاقتصادية المحددة والمجتمعية الشاملة. ونهج التوثيق والتناول الموضوعى والمعالجة النقدية هذا يتناقض جذريا مع برقيات التهنئة وإشعارات الشكر والتأييد، ووحده هو الذى يحترم المواطن ووعيه ورغبته فى المعرفة والتقييم الجاد لما تروجه نظم الحكم أو لما يروج من قبل معارضيها.
ليست هذه وظائف مقالات الرأى، ثانيا، لأن الصمت عن التناول الموضوعى والمعالجة النقدية المشروعات الكبرى يعنى فى طائفتى الديكتاتوريات والنظم السلطوية ــ ونحن فى مصر اليوم لدينا الكثير من ملامح الطائفتين ــ قبول الرأى الواحد والصوت الواحد والموقف الواحد والتقدير الواحد القادمين من دوائر الحاكم الفرد ومن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ويعنى أيضا التورط فى دفع قطاعات واسعة من المجتمع باتجاه الهيستيريا وسلوك الحشود وامتهان العقل.
ليست هذه وظائف مقالات الرأى، ثالثا، ﻷن كتابة برقيات التهنئة وإشعارات الشكر والتأييد لا يغير طبيعتها غير الموضوعية ولا ينفى عنها الانزلاق إلى غياهب أفعل التعظيم وتمجيد صنيع الحكام فى ظل تغييب الحقائق والمعلومات أن يشار فى صدارة المقالات المعنية إلى كون الإنجاز من صنيع الشعوب أيضا (صياغات «القائد والشعب» المعتادة فى مصر) ولا أن يكتب عن الإخفاقات والأزمات والانتهاكات والمظالم كمعوقات «للفرح العظيم» بالإنجاز «غير المسبوق» ولا أن يدلل على إمكانية الإفادة من الإنجاز للتخلص من أزمات غياب الديمقراطية والعصف بسيادة القانون والديكتاتورية والسلطوية اللتين نغرق بهما. فكل ذلك لا يبدل من الإسهام فى تغييب الحقائق والمعلومات عن المشروعات الكبرى أو يعوض عن منع الرأى العام عملا دون من تناولها بموضوعية ومعالجتها على نحو نقدى يحترم المواطن ورغبته فى المعرفة.