تقتضى متطلبات عملى كباحث فى علم المالية العامة، أن أقرأ كل عام الموازنة العامة للدولة بأبوابها وبنودها وتفاصيلها الدقيقة لأحدد الاتجاه العام للسياسة الاقتصادية المصرية، إلا أنى هذا العام سئمت قراءة الميزانية، فقد ردها رئيس الجمهورية؛ وللعلم فإن فى عدم وجود مجلس للنواب يقوم السيد رئيس البلاد بدور السلطة الرقابية على مجلس الوزراء كبديل للشعب لحين انتخاب مجلس نواب يمثل الأمة، وعليه نستنتج لماذا قام بذلك السيد الرئيس ورد الموازنة أول مرة إلى الحكومة لتصوبها وزارة المالية فى الاتجاه الذى يحقق التنمية المستدامة والقدر المناسب من العدالة الاجتماعية . فبعض المدارس الاقتصادية المعاصرة هذه الأيام ومنها مصر تتجه إلى تبنى سياسة “ضغط الموازنة العامة للدولة” إلى أضيق الحدود، وذلك إيماناً منها أن تدخل الدولة فى آليات السوق الحر واتساع نفقاتها يؤديان عادة إلى نتائج اقتصادية عامة سيئة، ومن هنا خلصت تلك الفلسفة غير الجديدة إلى ضرورة ضغط النفقات العامة وتقليص الميزانية إلى أقل حجم ممكن، بحيث لا يجب أن تشكل ميزانية الدول إلا نسبة ضئيلة من الدخل القومى والناتج المحلى الإجمالى ولا تقدر بالتالى على أن تؤثر فى النشاط الاقتصادى، ويكون النصيب الأكبر فى تكوين الدخل القومى للقطاع غير الحكومى والأفراد. وتستلزم تلك النظرية أن تلعب السياسة المالية “دور مالى تقليدى” بحيث يكون عملها الأول الحفاظ على توازن الميزانية، أى عدم الالتجاء إلى الاقتراض إلا فى أضيق الحدود وعدم التمويل بالعجز إلا فى الحالات الحرجة فقط . وقد جعلت هذه السياسة الجديدة من التوازن المالى أى “توازن الميزانية” هدفاً أساسياً للسياسة المالية بل وللسياسة الاقتصادية للدولة، ومعياراً للحكم على سلامتها وسلامة الاقتصاد القومى، وذلك اعتقاداً من المؤمنين بها أنها هى مفتاح لحل كل المشكلات الاقتصادية فى مصر، وهو ما دفعهم إلى معاملة سياسة الدولة الاقتصادية كالمشروع الذى يمكن الحكم على نجاح أعماله من خلال أثرها فى ميزانيته. وهو ما يخلع عن الدولة وظيفتها فى الاقتصاد من الدور الكلى إلى الدور الجزئى، وبالتالى تسلك مسلكا يتفق مع عدم مسئوليتها عن تحقيق التوازن الاقتصادى والاجتماعى، وهو أمر غير مقبول حتى فى أعتى الدول الرأسمالية مثال إنجلترا وأمريكا. والمقصود بتوازن الميزانية هذا فى معناه التقليدى أن تقوم الدولة فقط بتغطية نفقاتها العامة العادية من خلال الإيرادات العامة العادية “وهى سياسة تعرف أيضاً بنفقات الاستغلال”. وفى حدود هذا المعنى الضيق لتوازن الميزانية فإننا لا نكون أمام عجز فى الميزانية إذا ما استخدمت القروض فقط لتمويل نفقات استثمارية تعطى دخلاً يكفى لتغطية القروض وفوائدها. أى أننا بمعنى آخر لا نكون أمام عجز فى الميزانية العامة للدولة إذا ما ترجمت الزيادة فى الإنفاق العام عن حجم الإيرادات العادية بخلق أموال تدر إيراد للدولة من خلال النفقات الاستثمارية “أو خدمات فى اتجاه آخر”، والمعنى هنا واضح، فالحكومة تقتصر فكرة توازن الميزانية على الموازنة العادية، وأنها لا تجيز الالتجاء إلى القروض “داخلية كانت أو خارجية” إلا لتغطية نفقات غير عادية، مثل النفقات الحربية والأمن القومى أو النفقات الاستثمارية التى تعطى دخلاً (أو المنتجة). والأمر هنا يرجع فى الحقيقة إلى رغبة اللحكومة فى أحداث توازن بين النفقات العامة والإيرادات العامة لما له من أساس فلسفى فى التوازن بين نفقات الإنتاج ومعدلات ارتفاع الأسعار “التضخم” هذا إلى جانب عدم رغبة الحكومة فى الالتجاء إلى القروض لما تؤدى إليه من أثار انكماشية فى الاستثمار الخاص وخفض فى معدلات التشغيل “أى ارتفاع البطالة”، إلا أن الإدارة الاقتصادية المصرية اضطرت فى ظل هذا المنهج الجديد للالتجاء فى حالات كثيرة إلى الاقتراض ولكن على أن يكون فى شكل سندات (بالعملة المحلية، أو بالعملة الأجنبية) لمدة متوسطة وطويلة الأجل حتى تمول نفقاتها غير العادية وحتى تتجنب حدوث تضخم فى الأثمان وذلك لأن تمويل العجز عن طريق سندات حكومية قصيرة الأجل وحدها، يؤدى على الفور عند حلول هذا الأجل القصير (أى ميعاد استحقاق السندات) إلى زيادة الكمية النقدية المتداولة فى الأسواق وإلى حدوث تضخم نسبى فى الأسعار لحين استيعاب السوق للسيولة الجديدة وما إذا كانت سوف توظف فى الطلب على الاستهلاك أم فى الطلب على الاستثمار. وعلى ما تقدم ننتهى إلى أن مثل هذه السياسات المالية الجديدة التى تهدف إلى تقليص عجز الميزانية،هى سلاح ذو حدين يجب توخى الحذر فى استخدامه لأنه قد يفضى إلى بطالة فى حالات أو إلى تضخم فى الأسعار فى حالات أخرى، أو إلى الاثنين معا. لذا أتصور أن الرئيس السيسى رد الموازنة إلى الحكومة لهذه الأسباب لأن توازن الميزانية ليس هو الحل السحرى لكل مشكلاتنا الاقتصادية كما يتخيل البعض، وإن كان لاغنى عنه وهو هدف مالى أحمدٌ ولكن لا يجب أن يكون على حساب الفقراء، والحق أن الإصلاح الهيكلى هو الحل السحرى الذى سوف يقضى على كل المشكلات الاقتصادية، ومنها عجز الموازنة، فعجز المزانية نتيجة وليس سبباً .