إن المثل الأعلى فى أى شىء ليس نقطة ثابتة ولا عرضاً محدود المسافة يمكن بلوغه بنفس الطريقة كل مرة وبنفس السبل، بل كلما بلغناه انتقل شبحه أمامنا إلى نقطة أخرى أبعد عن مرمى النظر لسنا بالغيه، ولا منصرفين عن التثبت بإدراكه، بل يسوقنا إليه حاجة لا قبل لنا بالصبر على قضائها، ولا كافتنا أن نركب متن التعسف، لذلك لا يزال يصعب علينا فهم الأباطيل القديمة من حولنا التى كانت الغطرسة الفكرية والتنفيذية تأخذ بها مراكز اتخاذ القرار ليسقطوا فى هاوية التناقض، وهذا هو حالنا فى مصر الان. يقولون أن بعض الناس خلق للسيادة أبداً، وبعضهم خلق للعبودية أبداً، ولا نزال نرى هذا الخطأ يتردد فى آراء الساسة فى مصر من بعض الفصائل (فى هذا الزمان) ولكن على صورة أقل شناعة من التى كانت فى تاريخ العالم المظلم من عهود العبودية والرق، أى بعبارة أكثر ائتلافا مع مدينتنا الحديثة، هؤلاء يضعون أصابعهم فى أعينهم إذا تكون النتيجة المنطقية النهائية لهذه المقدمات الصادقة هى هذه الجزئية (بعض الإنسان لا إنسان). كذبت فلسفتهم، وفلسفة أى فصيل آخر يعتقد أن مثل هذه المعتقدات يمكن أن تقبل فى مصر أو فى أى أمة أخرى حرة، وصدق الذى يشعر به كل إنسان منا فى نفسه من الميل إلى الرقى فى كل شيء، وإلى الحرية قبل كل شىء، صدق هذا الأثر الذى نجده فى طليق الأسر، وفى محاولة المعقول أن ينشط من عقاله بعد ثورة حررت كل شىء. صدق ذلك الألم الذى يجده ذو الفكرة العلمية من حبس حريته عن التصريح بها فتظل تجول فى نفسه، ويغلى فى نفسه حب أبدائها فى صدره يقلق خاطره ويكد ضميره ويحتوى على كل مشاعره، حتى يفضل الموت فى إرضاء هذا الحب على حياة فى كتمانه. وكم عالم استحب الموت على الحياة فى سبيل حبه لحريته واقتناعه العلمى، فمنهم من قتل، ومنهم من حرق، ومنهم من حبس أو عذب (وللتاريخ شواهد كثيرة على ذلك )، وجعلهم من تلك الأمة التى يقولون أنها خلقت لغير السيادة. فإذا وجدت عبدا لم يؤثر الحرية على العبودية، ولم يطلب نفسا بالعتق من الرق، فذلك مثل من أمثلة التشويه النادر فى بنى الإنسان وليس قاعدة يصبح الأخذ بها. وحسبنا أن نرى الأدلة الحسية قائمة على أن حفظ الموجود الذاتى المجرد عنه آثار الحرية ليس أعز على نفس الإنسان من الاحتفاظ باحترام حريته، وأن الذى يراجع ماضى العالم كما ذكرت لا يجد أمة من الأمم المخلوقة للعبودية – كما يزعمون – إلا قاتلت عن حريتها، عاجلاً أو آجلاً حتى حصلت عليها كاملةً. وإذا كان أصدق المعلومات هى تلك المعلومات التى تقدمها لنا المشاهدة الواقعية من حولنا، وما دامت هذه المشاهدات تدلنا على ما ذكرنا بعض أمثلته، فالإنسان – حر بطبعه ميال إلى الحرية ميال للرقى فيها إلى المثل الأعلى، وأنه لا تفاوت بين أفراد الإنسان إلا فى تقدير هذا المثل الأعلى وفى سهولة الوسائل الموصلة إليه. الحرية طبيعية، وميل الناس إلى تحصيلها طبيعى بالضرورة، يشتد ويظهر مع القوة الحيوية، ويضعف وتخمد آثاره مع الضعف، فكما أن القوى لا تموت جوعاً، كذلك لا يصبر على الحياة البعيدة عن المثل الأعلى للحرية. لقد أصبحنا فى مصر ندرك الحرية، بعد الثورة بمثلها الأصلى الذى يأتلف مع شرف الإنسان المصرى فى هذا الزمان، فقد أصبحنا نمتعض من كل فكرة، ومن كل قانون، ومن كل عمل، يمس “الحرية الشخصية” أو يعطل استعمال “الحرية المدنية” فى غير الحدود المتفق عليها والمعروفة “بالحرية المسئولة” لا “الحرية الفوضوية”، وأصبحنا كذلك نرى أن الحكومة المعقولة الوحيدة والتى لن يقبل دونها بعد اليوم والمطابقة لشرف الأمة الحرة هى تأتى بالإرادة الشعبية دائماً، لتكون حكومة دستورية، لا حكومة السادة لعبيدهم. والشعب المصرى يعرف المعنى الحقيقى للحرية ويعرف أيضاً حقوقه الدستورية.