الأشقياء في الدّنيا كثير، وليس في استطاعة بائس مثلي أن يمحو شيئاً من بؤسهم وشقائهم، قلا أقلّ من أن أسكب بين أيديهم هذه العبرات، علّهم يجدون في بكائي عليهم تعزية وسلوى.
مصطفى لطفي المنفلوطي
الأشقياء في العالم كثير، وأشقاهم أولئك الّذين يُنتزع منهم شرفهم عنوة، وتُقتل إنسانيّتهم قبل أن تولد في حدائق الحياة. أولئك الّذين يحتمون في كنف الدّولة، حتّى إذا ما غُدر بإنسانيّتهم، لجأوا إليها قانعين بعدالتها وإنصافها. وإذا بالدّولة العليّة تجرّهم إلى دواميسها المظلمة وتتبجّح بسلطتها المتسلّطة، لتدفنهم أحياء في عالم الشّقاء.
الأشقياء في العالم كثير، وأشقاهم أولئك الّذين يبكون أطفالاً سُفك عرضهم ونزف على أسفلت ضمير الباب العالي. أولئك الّذين يتربّون على أنّ الشّرف هو الكرامة الإنسانيّة، وإذا بهم يستفيقون من حلم الطّفولة على يقظة ليل مظلم، لا يفقه من الشّرف إلّا حدود الجسد، ويغيب عنه أنّ الشّرف حدوده الكيان الإنسانيّ كلّه، ويعلو فوق كلّ مقتدِر وقادر ومقدّر له أن يتحكّم ويستحكم.
يمكن للإنسان أن يبحث عن قوته حتّى في النّفايات، ويمكن أن يروي ظمأ سنين شقائه من مستنقع اختلطت مياهه بتراب الذّلّ والقهر، ويمكن أن يحمي رأسه بوريقات شجيرات تنمو على ضفاف القسوة والعوز. ولكن أنّى له أن يبحث عن شرفه إذا ما خرج وحش من بحر الموت وافترسه وغدا حرّاً طليقاً ينعم ببراعم ذبلت قبل أن تتفتّح.
إلى أمّهات تحترق قلوبهنّ بنار الألم الّذي لا يمكن لإنسان أن يحتمله، وتكاد عقولهنّ تتشتّت من وقع الفاجعة والقهر يلتهم إنسانيّة أطفالهنّ. إلى آباء يحبسون الدّمع في الصّدور، وينظرون السّماء يرقبون عدالتها ويرجون رحمة تخمد نار قلوبهم الّتي تئنّ وتنوح على فلذات أكبادهم.
إلى أطفال جرّحتهم عدالة الأرض الزّائفة، واغتصبت أمانيهم كما شرفهم، وأطلقت العنان للوحوش تعبث في الأرض، واستلمت بيد حرير الصّفقات وسلّمت بالأخرى كيان إنسان.
من أجلكم، أطفالنا وأهلنا الأحبّاء، نصلّي بقلوب متألّمة مع قلوبكم، وعبرات تحضن عبراتكم، ودماء تجفّ في العروق، ففي الآلام، وحده الله هو المعزّي.