الحديث في الماضي قلة عقل ..إلا إذا كان لاستلهام الدرس واستنباط مواطن القوة والضعف.. لكننا في مصر المحروسة مولعين ومغرمين باللت والعجن في الكلام واجترار الماضي – بعيدا كان أو قريب – لقطع الوقت وتضييعه أو للتباري حول مواقف وقضايا عامة تتحول بقدرة قادر إلي مواقف شخصية ، وهات يا كلام ، وتعالي يا خلاف ، وروح للنائب العام وقدم بلاغ ، وفوت علي القاضي وقول حرية رأي وتعبير ، واقرأ الحكم واصرخ .. القضاء مسيس ، واضحك وارتاح واهمس .. القضاء عادل وشامخ .. قول كل حاجة وعكسها ، وارفع شعارات لا تطبقها ، وطالب بالديمقراطية ولا تمنحها لغيرك ، واهتف بالحرية ولا تقبل رأيا غير رأيك .. من الآخر قول .. الكلام بدون جمرك ولا ضريبة مبيعات، ولا رسم إغراق ..
في الذكري 64 لثورة يوليو 1952 ما زال البعض يخرج علينا ليسأل السؤال الخالد .. ماذا بقي من ثورة يوليو المجيدة ؟ العبقري يطرح السؤال منذ أكثر من خمسين عام مضت وربما أكثر ، ومع ذلك لا يمل ولا يكل ، والبعض الآخر يسأل السؤال العبيط .. 23 يوليو 1952 هل كانت ثورة أم انقلاب ؟ أمثال هؤلاء وهؤلاء لا يبحثون عن حقيقة ولا عن نتيجة .. يبحثون عن نقاط الخلاف فقط ويتركون نتائج أثرت في الوطن طوال عقود ماضية وستظل بهدف الوقوف تحت بقعة ضوء تعيدهم إلي خشبة المسرح كل عام !
لا توجد ثورة في العالم اتفق عليها الجميع .. دائما هناك مع وضد ، ودائما هناك مصالح تتحقق للبعض ، وخسائر تلحق بالبعض والجدل حول ثورتي يناير ويونيو لن ينتهي ولن يتوقف ، وأمامنا عقود سيظل هذا الجدل وهذا الخلاف قائما يؤدي دورا لمن تغيب عنهم الأدوار وتنحسر عنهم الأضواء !
25 يناير ثورة أم مؤامرة .. إجابة هذا السؤال فيه كلام يملأ صفحات عشرات الكتب ، وفيه جدل يملأ هواء الفضائيات ساعات طويلة ، وفيه خلاف لا التقاء فيه ولو سقطت السماء علي الأرض ، فيه المعادلة صفرية مائة في المائة .. حتى الذين يقولون كانت ثورة في الثلاثة أيام الأولي ثم حولها شياطين الإنس من الجماعة الإرهابية إلي مؤامرة ، وكان فيها شباب أطهار أنقيا دفعوا الفاتورة مقدما ، وفيها أشرار حصدوا مكاسبها الآنية فارتقي البعض منهم إلي طبقات عليا وكانوا بالأمس القريب …. !! لم يوافقوا علي هذا الطرح رغم أنهم يعلمون حقيقته !
30 يونيو ثورة أم انقلاب .. مؤيدو ثورة يناير يرون 30 يونيو انقلاب علي يناير ولا يعترفون بها ثورة ، وفي أحسن الأحوال يصفونها بالموجة الثانية للثورة ، وأنها عادت برموز النظام القديم وكأن الزمن توقف عند 24 يناير 2011 ، ويري جانبا من مؤيدي 30 يونيو أن أحداث يناير أوصلت الجماعة الإرهابية للحكم واختطفت الوطن !
هؤلاء هم من يجلسون علي حافة النهر أو من يجلسون في مقاعد المتفرجين أو عواجيز الفرح .. لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب .. هؤلاء يستريحون وهم في خندق الخلاف لا الاختلاف , لا يريدون رؤية شيئا إيجابيا .. يحبون حالة التثوير التي لا تنتهي .. عقولهم خاوية علي عروشها لا نبت فيها ولا ثمر .. يعيشون علي بذور الفتنة وتأجيج الخلاف وطرح الأسئلة العبثية .. تجارتهم أتلفها الشعب الذي ينشد الحياة ويرغب في تحسين مستواه .
ستظل الأسئلة تتردد كما هي ، وستظل الأجوبة قناعات شخصية لا فكاك منها ، وربما يأتي زمن نقرأ تاريخ هذه الفترة العصيبة بعقل بارد ووعي ناضج لنستلهم الدرس والعبرة ، ونتخلص من أمراض الثورات التي أصابتنا بفقدان الوعي فصرنا نؤمن بشعارات نكفر بتطبيقها ، ونقدس كلمات نفقدها معانيها ومحتواها .