عمار يا مصر
الخروج من الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر ضرورة حتمية ، والإصلاح الاقتصادي دواء لابد من تجرعه ، وقرض صندوق النقد مطلوب ، والبحث عن مصادر أخري للدولار لسد الفجوة التمويلية حاجة ملحة .. لا أحد ينكر كل ما سبق ذكره وأكثر لإيجاد حالة من التوازن المقبول في الموازنة العامة حتى تتهيأ البلاد لاستقبال الاستثمار وخلق فرص عمل تعالج مشاكل البطالة وترفع مستوي المعيشة المتدني لغالبية الشعب المصري بعيدا عن مجتمع ال15 % الذي يستحوذ علي أكثر من 80 % من الدعم الذي تقدمه الدولة في ميزانيتها .. باختصار الدولة ما زالت تنحاز أكثر للطبقة الغنية فيها وخصوصا رجال الأعمال الذين يتحكمون في أكثر من 70 % من الاقتصاد حسب بيانات وتصريحات المسئولين !
الحكومة قررت أن تعالج تشوهات الموازنة ، وتقلل الفجوة بين الإيرادات والمصروفات وهي تعلم أن هذه القرارات صعبة وخطيرة ولها تكلفة لابد من دفعها ، وتعلم أيضا كما نعلم نحن أن التأخير سيكلفنا المزيد وربما يعرض الدولة كلها للخطر وخصوصا الأجيال القادمة .
لكن عندما قررت بدء العلاج لم تراع السواد الأعظم من الشعب الذي يشكل الدرع الواقي في حماية هذا الوطن من السقوط ، ولم ترفع مناعته ضد تداعيات هذا العلاج وآثاره الجانبية .. الحكومة قررت أن تتصرف بشجاعة علي حساب المواطن من أدني طبقات السلم إلي ما قبل طبقة الأغنياء الذين يملكون قدرات عالية علي المواجهة ولديهم من الفوائض الكثير ولا يعنيهم من قريب أو بعيد أن يعوم الجنيه أو يغرق أو ترتفع أسعار المحروقات من بنزين وسولار وبوتاجاز ، فكل الزيادة التي تحرق جيوب غير القادرين تنفقها هذه الطبقة في حفل ساهر أو عشاء عامر بكل ما لذ وطاب .. والحقيقة أن ما أقوله ليس فيه مبالغة أو نظرة حسد أو حقد علي أحد .. لكنه واقع يدركه الجميع ويتعامي عنه البعض
الحكومة حررت سعر الصرف واستقبل الناس الخبر بين متفائل ومتحفظ ومتخوف ، وقال الذين لا يعرفون للدولار شكل أو عنوان .. المهم الأسعار ترخص والناس تتنفس شوية ، وقال الخبراء .. خطوة مهمة سوف تنعكس علي حياة الناس بالإيجاب، وبين التمنيات والرجاء بصلاح الحال يسقط خبر تحريك أسعار الوقود مساء نفس اليوم كالمطرقة .. خبطتين في الرأس يوجعوا .. تبدد الأمل وتراجعت الأمنيات فصارت .. ربنا يستر .. الغلابة داخلين علي معركة مع كل شيء في الوطن، لأن الحكاية معروفة .. بنزين وسولار يعني ارتفاع أسعار كل شيء ولا يستطيع أحد أن يتكلم أو يمنع الزيادة .. سميها بلطجة ..ابتزاز .. قانون القوة .. كيفما يتراءى لك !
سرت التكهنات والتحليلات سريان النار في الهشيم .. تُري ماذا ستقول الحكومة للناس وكيف تجعلهم يطمئنون علي بكره الذي يحمل غيما في السماء ، وعلي اليوم المزعوم الذي يقترب ولا أحد يعرف ما سوف يجري فيه .. نسيت أن أقول أن رئيس الحكومة أعلن أنه سيعقد مؤتمرا صحفيا يشرح فيه ما جري ، ولأن الحكومة في المغارة فلم يعرف أحد ما سوف تقوله الحكومة للناس .. لكن من مساء الخميس وحتى موعد المؤتمر قبل صلاة الجمعة اشتعلت التكهنات أيضا وارتفع سقف الإفتاء وسقف التوقعات .. الحكومة بالقطع ستعلن عن إجراءات حماية للطبقات غير القادرة .. الحكومة بالقطع ستعلن عن إجراءات لمواجهة موجة ارتفاع أسعار جديدة بعد أن ارتفعت بلا مبرر قبل التعويم وقبل تحريك أسعار البنزين والسولار .. لا .. الحكومة لن تترك الناس في مهب الريح نهبا للجشع والاستغلال بعد أن نقصت دخولهم وتراجعت إلي النصف تقريبا .. لا .. لن يفوت الحكومة التأكيد أنها تنحاز إلي الغلابة بوضوح .. وهكذا بات الناس علي أمل .. لكن الأمل لم يأت .. خدع الحكومة وخدعنا !
مؤتمر الحكومة كان صامتا .. لم يتكلم فيه أحد رغم كل الكلام الذي قيل فيه .. لم يصل مسامع الناس ما يطمئنها .. كان في تقديري أشبه بمحاضرة في فصل ابتدائي .. وكان يمكن الاستعاضة عنه بتسجيل صوتي لكل ما قيل لأنه قيل من قبل .. المؤتمر كان من المفروض أن يرسل للناس رسائل واضحة حول حمايتهم من تداعيات القرارات وأظنها بديهية ومعروفة .. من يرفع سعر سلعة بلا مبرر ، ومن يخفي سلعة ليتحايل لرفع سعرها ، ومن يطلب زيادة في تعريفة المواصلات العامة والخاصة دون الرجوع إلي السلطة المختصة التي تحدد الزيادة المقبولة ، وكل من يثبت أنه يتخذ من الدولار سندا لرفع أسعاره .. كل هؤلاء يحالون إلي محكمة الجنايات بتهمة سرقة قوت الشعب وتهديد الأمن القومي لينالوا عقابا سريعا رادعا ، وأما فيما يخص الكبار – أي كبار – كان من الضروري صدور قرارات تحملهم جزءا من المسئولية الاجتماعية يشعر بها الناس بوضوح وأولهم الحكومة التي تريدنا أن نتقشف وهي لأ !