بلى شهدنا…
تميد الأرض تحت القدمين، يزيغ البصر، الرأس أثقل من جبل على الكتفين، سقوط حيث أنت، والرأس تصطدم بما هو دونها من غير تحكم منك ولا إرادة.. كسكراتٍ دون موت؛ هكذا يشعر من أصيب بالتهاب، مجرد التهاب، في الأذن الداخلية حيث موضع التوازن في الجسم، بأسفل الرأس.
حركة الأرض هي الحياة ذاتها, هي الشروق والغروب، واختلاف الفصول وألوان الطبيعة والكائنات والزمان، لولاها لما كان ليلٌ ولا نهار ولا ربيع ولا حصاد، ولا ساعات وأيام وأعوام نعرف لها حسابًا وعدَّاً.. ولكن الحركة الحرة تمامًا كسيارة طائشة أو كسفينة بغير بوصلة، تيه مؤكد واصطدام محتمل..
وكان لابد للأرض من عقال، وتدٍ يثبتها إلى نفسها كي تهدأ حركتها عند اللزوم، ولا تجنح. ” وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ “..” وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ “..” وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا “.
الجبال التي وصفها الخالق الحكيم بالشامخات: “رواسي شامخات”، هي نفسها التي اختارها لكي يضرب لنا بها مثلاً عن تلقي القرآن العظيم والخشوع له: ” لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ “.
وكما الحركة للأرض، لم تكن الشهوة هي موضع الاختبار فحسب، وإنما هي أيضاً سر الحياة نفسها، الخصب، البناء، النسق الإنساني وسلساله، وجماله، للأنثى أنوثتها وللرجل رجولته وبدون هذا يصبح المرء مسخاً وتضيع معالمه ويذهب جماله.. ولكن الإسراف والشطط والجموح فيها هو الدمار لكل ذلك وهو الذهاب بالإنسان إلى مسخٍ آخر أكثر توحشاً وتدنياً والسقوط به إلى منطقة الجسد خالياً من الحياة، كأرض أُريدَ لها الخصب فأغرقت فصارت صعيداً زلقاً.
وكان أن جعل للإنسان عقاله، الذي يهذب ويرشد ويثبِّت ويردّ ويعيد ويصحح، ويؤوب..
في القرآن الكريم ذكرت كلمة العقل ومشتقاتها 49 مرة، وبنفس العدد ذكرت كلمة نور ومشتقاتها.. ونحن من يتحكم -بما أوكل لنا الله ليكلفنا- في النور الذي يصل إلى عقولنا وبصيرتنا؛ فحيثما توجه عقلك ترى، وترى حيثما وجهت عقلك؛ فإنه وإن بلغ ذكاء المرء درجات العبقرية ثم لم يوجه عقله إلا إلى سفاسف الأمور فإنه لن يرى أبعد منها.. وإنه وإن كان ذكاؤه عادياً ولكنه موجهه إلى الأرقى، إلى الأعمق والأدوم والأسبق من المعرفة، فسينال منها ويصل فيها ويرى بقدر جهده وما وُهب.. ” وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ “.
فالعقل ليس محتماً أن يصل بك إلى الحقيقة، حقيقة أي شيء، إذا فقدت بوصلة الروح وبصيرتها وفقدت الرغبة الصادقة في الوصول إليها.. وفي هذا رأي بعض العلماء أن هداية الله لمن يشاء تعني مشيئة العبد أولاً فإذا أراد الهداية هداه الرب؛ فمشيئة الخالق عدل كلها، إذا هدى فبرحمته وإذا أضلَّ فبميل العبد للضلال.. “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا”.
فقد أُهدي المرءُ عقلاً يثبِّته أن يميل به الهوى فيضر بنفسه، جسدياً أو اجتماعياً أو دينياً، وجعلت له الطرق كلها ممهدة ليختار منها ما يشاء فيصل حيث اتجه وحيث وجَّه نور عقله..
وكما يختل الجسد كله إذا أصاب موضع التوازن منه اضطراب, فإن الإنسان ينقلب هائماً على وجهه، تائهاً في الحياة بقدر ما يعطل عقله ويستسلم للهوى وللدنايا التي تقود من ظلمة إلى ظلمة، من جهل معرفي إلى جهل إيماني إلى إفساد وتدمير يهوي بصاحبه حيث أراد فضلَّ، على المستوى الدنيوي أو الديني أو كليهما.. “إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ” ؛ فبالجهل وتعطيل العقل تخرب دول وتنهار حضارات وتفسد عقيدة، وبالعقل وحده، بالعلم، تُقاد السفينة إلى حيث أي بر شاءت.. ” وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ “
بقدر جموح الأرض، بقدر ما تليق بها الجبال الرواسي.. وبقدر الهوى والشهوات والأثرة بقدر ما وُهب العقل ما يكفل له القيادة والترويض.. ومِلاك الأمر.