كلما أحدق في المشهد السياسي الراهن محليًا وإقليميًا ودوليًا.. أجد نفسي أترحم على أستاذنا الفيلسوف “الدكتور زكي نجيب محمود”، فهو الذي نصحني – ونعم نصيحته، فالتحولات والأيام تثبت أنه لغة ذات أعماق بعيدة – قال لي إذا اشتغلت بالسياسة فلا تنشغل بالسياسة اليومية المؤقتة والموسمية، فهي مهلكة.. ومستهلكة.. ومستفزة لرجل الفكر الذي يسعى جاهدًا لضبط إيقاع المجتمع، بشكل أو بآخر.
لكن ماذا كان بوسعه أن يفعل الآن لو كان هذا الفيلسوف حيًا بيننا الآن؟ ويرى أن السياسة في السنوات الست الأخيرة- التي لا تزال ملتهبة – صارت كالماء والهواء ، بل إنها أصبحت تفرق حتى بين المرء وزوجه؟ بغض النظر عما إذا كان لدينا ساسة أم «هواة» في علم السياسة.
ولمست أصداء هذه الرؤية البعيدة لدى أستاذي “أنيس منصور” الذي عززها بداخلي على مدى أكثر من أربعين عامًا في شارع الصحافة، ففي القرن العشرين أصبحت السياسة هي العلم الذي «يسود» العلوم الأخرى، فكما كانت الطبيعة سيدة علوم القرن الثامن عشر، والرياضة سيدة علوم القرن التاسع عشر، والفلك سيد علوم القرن العشرين، فإن السياسة أيضًا سيدة العلوم كلها بما فيها الفلك، فالتنافس بين السوفييت والأمريكان على الكواكب الأخرى، ليس علمًا بالدرجة الأولى، ولكنه سياسة تمامًا، فكل منهما يحاول أن يثبت أن مذهبه في السياسة هو الذي أدى به إلى بلوغ القمر أولًا، وإنزال إنسان عليه وإعادته، وكان أرسطو يرى أن الإنسان حيوان سياسي، أي أنه حيوان أولًا، ثم يحاول أن يتحكم في غرائزه الحيوانية بالسيطرة عليها، وهذه السيطرة هي السياسة.. ولم يعرف العصر الحديث إلا أدباء وفلاسفة في السياسة؛ لأنهم حريصون على أداء هذا «الواجب» أو الوفاء بهذا الالتزام الفكري والوطني والقومي.
وعلى المستوى العملي أخبرني ذات يوم وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي، وهو من أعرق وزراء الخارجية وأكثرهم عمقًا في التعامل مع الأحداث في المنطقة العربية والعالم ، قال لي إن ما يجري في الغرف السياسية المغلقة لا علاقة له بما يجري في الخارج من خطابات سياسية، خاصة في الغرف المفتوحة عبر وسائل الإعلام.
وإذا كان العظيم بيرم التونسي قال:
« يا أهل المغنى.. دماغنا وجعنا.. دقيقة سكوت لله»
فإنه من الممكن استبدال «أهل المغنى» بـ «أهل السياسة».. برغم أنه كله «غنا في غنا»..!!
وإن تعجب فعجب من الذين يوهمون أنفسهم بأنهم ( قوى سياسية) أي قوى هذه أيها السادة؟ المستحيل أنكم (ساسة) ورابع المستحيلات أنكم (قوى) إن آثار سلوكياتكم ومؤتمراتكم وخصوماتكم وسبابكم بعضكم بعضًا، وشتائمكم العلنية في بعضكم بعضًا، وكل طائفة تلعن أختها، كل ذلك لا يساوي جناح بعوضة في علم السياسة ولا يساوي قدر أنملة عند «الناس» الذين يمارسون السياسة أفضل وأصدق منكم، وهم يتناقشون بتلقائية البسطاء في شئون ما يجري.. تفحمكم بعفويتها ومصداقياتها التي تنسف أطنان الكلام والثرثرة التي تمتهنونها ومنها تسترزقون، وأنتم في مجالسكم المكيفة المنعمة بالطعام والشراب والراحة، وأحاديثكم التي تورينا من طرف اللسان حلاوة، وتروغ منا كما يروغ الثغلب..!
ما لكم تنظرون إلينا ولا تبصرون؟ كفوا عن الثرثرة واتركونا نتفاعل مع أنفسنا، ارفعوا أيديكم عنا، كلكم تريدون الكرسي.. الكرسي فقط، وما أدراكم ما الكرسي الذي يهتز بكلمة.
إن أحد وجوه أزمة المشهد السياسي أن السياسة العربية – إذا جاز التعبير – أنها تبدأ من منطلق قُـطْري، كل قطر من أقطارنا العربية «هو وبس»؛ لذلك نحن «الأخوة الأعداء» الكل ينفر من الكل، لكن لن نكون ضحايا لكم أبدًا أبدًا.. لا هدف، لا رؤية، لا إستراتيجية، وأنى لكم ذلك وأنتم في الأجواء لاهون.. ضجيج بلا طحن.. عواء ونعيق على طريقة (أسد علىَّ وفي الحروب دجاجة) مؤتمرات مضحكة، وشعارات فارغة، وأقنعة تساقط، ووجوه اختفت بعدما ظهرت حقيقتها، وألسنة أصابها الخرس، وكتابات سقيمة ممسوخة رائحتها مزعجة ماديًا ومعنويًا.
يا أصحاب التنقل بين أروقة الفضائيات، والتسكع على أسطحها.. متى تكفون عن هذا الهذيان السياسي، لا تقولوا من فضلكم هذا طبيعي، فالمجتمع العربي كان مسجونًا، وهذه هي الحرية والديمقراطية، وما إلى ذلك من تعبيرات التهريج والتبربر والبحث عن زعامات رخيصة في مناخ ضبابي تتناقض فيه مرايا لا أول لها ولا آخر ولا تتجاور.. ثأر.. انتقام.. انتقاص.. إقصاء.. ضغينة.. حقد.. دين وديناميت.. فقر فكر.. وفكر فقر.. دماء وأحشاء.. أبيض وأسود.. قبح أكثر من جمال.. عذاب يطغى على عذوبة.. ألم يخنق أملًا.. حلم لا يريد التحقق.. أيام أطول من ساعاتها.. كوابيس تجهض النواميس.. مصابيح تطفئها الخفافيش.. زحام مرعب في كل شيء، وفي الزحام لا أحد يسمع أحدًا.. بقرات عجاف أكثر من السمان.. جوع فكري.. وجمهور سياسي متوحش نطعمه قطعة شوكولاتة.. ثم نريد أن نعالج السرطان العربي بقرص أسبرين صنع في العالم العربي..!