لحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد فمن حكمة الشارع عز وجل أنه لم يشرع عبادة من العبادات إلا لحكم وغايات ومقاصد عظيمة، سواء تجلت لنا هذه الحكم كلها أو جلها أو خفيت، وإن من أعظم وأجل الشعائر والعبادات التي شرعها الله عز وجل شعيرة الحج، والتي تعد بمثابة مدرسة تربوية ربانية، بل مصدر إلهام للبشرية!، فيها العديد من الدروس والفوائد والعظات والعبر والمقاصد للحجيج بل ولكل ذي عقل سديد: “ن في ذلك لآيات لأولي النهى”.
وإن من أجل وأعظم الدروس في مدرسة الحج إصلاح النفوس وتهذيبها وتأديبها، بوضع قيود وضوابط لكبح جموح النفس البشرية وكسر شوكة الغرور والكبر فيها تخلقاً وتأدباً وتواضعاً وانقياداً، وجعل هذه الضوابط شروطاً لصحة الحج وقبوله، وليس هذا مع الناس فحسب بل مع كل أجناس الكون، إذ من المعلوم أن مدار هذا الكون على أربعة أجناس، هي الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وكأن الله عز وجل أراد بالحج أن يهذب روح الإنسان ونفسه مع كل كائن في هذا الكون.
فبدأ بالإنسان.. فساوى بين الجميع في كل شيء، لا فرق ولا فضل ولا ميزة ﻷحد على أحد، ثم قال كذلك مؤدبا: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، ثم مع الحيوان.. فقال: “لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم”، بل وزيادة في التأديب والتهذيب: (ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب) فلا تقربوه كذلك!، ثم مع النبات.. فقال صلى الله عليه وسلم عن البلد الحرام مكة: (لا يختلى شوكها، ولا يعضد شجرها) وفي رواية: (ولا يحتش حشيشها)، ثم الأعظم من ذلك مع الجماد.. وذلك بتقبيل واستلام الحجر الأسود وتعظيمه، لا لذاته وإنما تعظيماً لشعائر الله عز وجل، وإلا فإن كان هذا حجر يقبل ويلثم، فبعدها بساعات في رمي الجمار هذا حجر آخر يرمى ويرجم، وذلك كله ترسيخ لمقصد التزكية والتطهير والتهذيب والتقويم في نفس كل بشر، وتأصيل لمبدأ التأدب مع خلق الله، بعد التأدب مع الله، واحترام الزمان والمكان والكيان (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).