على رغم مرور 47 عاماً على وفاة جمال عبد الناصر، فإنه يظل حتى الآن أحد الزعماء العرب الأكثر إثارة للجدل في الأوساط السياسية والثقافية العربية، بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق مع توجهاته وسياساته التي امتدت عملياً أربعة عشر عاماً فقط، من 1953 إلى 1967 وهو تاريخ الهزيمة العربية في مواجهة إسرائيل والتي عرفت بحرب الأيام الستة أو نكسة حزيران (يونيو). يمكن القول إن الرجل يعتبر نموذجاً للقيادة الاستثنائية التي جاءت في ظرف تاريخي كانت الأمة العربية في أشد الحاجة لها، لا سيما أنه لم يستسلم نتيجة هذه الهزيمة وظل يتحمل عبء المسؤولية على رغم جراحه المثخنة. قرر عبدالناصر إزالة آثار العدوان وعمل على إعادة بناء الجيش وكانت تدعمه جبهة داخلية قوية. كما دخل حرب الاستنزاف بعد أشهر قليلة من العدوان. وفي الوقت نفسه أعاد عبدالناصر ترتيب البيت العربي حتى غيَّبه الموت في 28 أيلول (سبتمبر) 1970. وطوال حكمه حتى وفاته نلاحظ أنه لم يستخدم تعبير «الناصرية» بمعناه الأيديولوجي إنما انتشر التعبير بعد وفاته في أدبيات السياسة المصرية بخاصة والسياسة العربية عموماً. ومن هنا لم يكن عبدالناصر منظراً أو مفكراً سياسياً يبحث عن وضع نظرية أو مذهب سياسي لكنه كان قارئاً جيداً للتاريخ ومقتنعاً بتطبيق نظرية التجربة والخطأ. وعليه لم يكن عبدالناصر يؤمن بالقوالب الجامدة أو «التابوهات»، ولهذا نجده يربط دائماً بين الفكرة وإمكانات الواقع ويخرج بالتطبيق الملائم.
وعلى سبيل المثال كان ناصر اشتراكياً بمعنى الكلمة من الناحية الإنسانية، أي عدم استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ومن ثم انحاز إلى الفقراء. وفسر البعض هذا الانحياز على أن عبدالناصر كان «شيوعياً»، لكن التجارب أكدت أنه لم يكن كذلك، بل كان يؤمن بالتطبيق العربي للاشتراكية من خلال تحقيق مبدأين، «الكفاية الإنتاجية» و «العدالة التوزيعية» وربطه بفكرة أن الإنسان له بقدر عمله وليس بقدر حاجته، وهنا يتضح أنه لم يكن ماركسي الفكر أو التوجه. ومن أهم عيوب عبدالناصر أن حكمه لم يكن ديموقراطياً، وفسر الناصريون ذلك بأن الظرف التاريخي كان يفرض عليه أن يتحكم في عملية اتخاذ القرار من 1952 إلى 1960 وهي الفترة التي عرفت بفترة «التحرر الوطني» لمواجهة أعداء الثورة، ولكنه كان مقتنعاً بالفكر الديموقراطي بدليل أن من مبادئ ثورة 1952 إقامة حياة ديموقراطية سليمة. وكان يفترض أن يتم تطبيق الحلول الديموقراطية التي نص عليها الميثاق الذي أصدره في أيار (مايو) 1962 كدليل للعمل الوطني في بداية عمل التنظيم السياسي الجديد والوحيد في مصر آنذاك والذي حل محل الاتحاد القومي وسميَّ الاتحاد الاشتراكي العربي، وقال إن حرية الكلمة هي المقدمة للديموقراطية ولكن لم تتحقق أي من هذه الأطروحات بسبب الخوف من استغلال مناخ الحرية لمصلحة أعداء الثورة. وعلى رغم ذلك انتهز أعداء عبدالناصر فرصة الأداء غير الديموقراطي لحكمه كي يجهزوا على نظامه، الأمر الذي مثَّل نوعاً مِن التحديات الداخلية والخارجية الضاغطة على الحكم واعتبر مبرراً لاستمرار السياسات الشمولية. وفي اعتقادي أن هزيمة 67 كانت إحدى نتائج الإخفاق الديموقراطي في الحقبة الناصرية.
في المقابل حقق عبدالناصر نجاحات في مجال العدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي وتحققت سيطرة كاملة للدولة على كل ما يتعلق بحياة المواطن وأبرزها مجانية التعليم وتصدر القطاع العام قيادة عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهو الأمر الذي أثار حفيظة بقايا الرأسماليين والإقطاعيين في مصر وغادر بعضهم البلاد ليقود حملات شعواء ضد نظام عبدالناصر. ولم يكن عبدالناصر منغلقاً على نفسه بل كان يؤمن بقدرة الأمة العربية على الفعل والعطاء من أجل تحقيق تكامل سياسي واقتصادي وعسكري يجمع الدول العربية على اختلاف أنظمتها السياسية والاقتصادية تحت غطاء قومي واحد. لكن الواقع العربي كان يصطدم بالمصالح المتباينة، ومن ثم لم تتحقق أحلام عبدالناصر في قيام الوحدة العربية.
ونذكر أن الرجل حتى آخر نفس في حياته كان يسعى الى رأب الصدع العربي لا سيما بعد الأحداث المعروفة باسم «أيلول الأسود» بين نظام حكم الملك حسين والمنظمات الفلسطينية في الأردن عام 1970. وعقب وفاته ترك زخماً كبيراً بين أبناء الجيل الذي ارتبط بثورة 1952 واستفاد من انحياز عبدالناصر للطبقات الفقيرة والمتوسطة، بخاصة في الأوساط الطالبية في عقد السبعينات وتم الاتفاق على إنشاء كيانات في الجامعات تسمى «نوادي الفكر الناصري». وتمحورت مهمة ذلك الكيان الأساسية في تحويل إرث عبد الناصر الفكري إلى نظرية يمكن البناء عليها في قضايا التنمية ودعم الأفكار الوحدوية. وهو أمر لم يكن من السهل قبوله من نظام خلفه الرئيس السادات الذي لم يكن مقتنعاً بهذا التوجه.
وفسر الساداتيون التحرك الناصري بأنه حركة مضادة لحكم السادات. ولهذا عمل السادات على إجهاض الحركة الطالبية الناصرية، بخاصة في جامعتي القاهرة وعين شمس، من خلال مساندة غير معلنة للجماعات الإسلامية. وحدثت مواجهة في العامين 1971- 1972 بين الجانبين وزادت حدتها بعد حرب 1973، عندما قرر السادات اتباع سياسة «الانفتاح الاقتصادي». غير أن السادات اغتيل برصاص الجماعات التي أطلق يدها لمواجهة الناصريين. وجاء بعده حسني مبارك الذي سار على النهج نفسه.
وزيادة على هذا زاوج مبارك بين رأس المال والسلطة وانغلق أفريقياً وتراجع دور مصر عربياً. أما الفكرة الناصرية، فقد فقدت بريقها في غضون ثلاثين عاماً عندما حاول البعض ممن ينتمون الى فكر عبدالناصر أن يتاجروا بها ما أدى إلى حدوث استقطاب بين الناصريين أنفسهم فتوزعوا بين حزبي التجمع الوحدوي والحزب الناصري وما يعرف بالتيار الشعبي الذي تكون بعد ثورة كانون الثاني (يناير) 2011. وظل القطاع الأكبر من الناصريين بعيداً من حلقة الصراع والمتاجرة ما جعلني أقول: لو كان عبدالناصر حياً لرفض أن يكون ناصرياً ويسير على نهج هؤلاء.