الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد/ فإنه وإن كانت قد مرت بالإسلام الكثيرُ من الأيام، والأحداثُ العظام، والنوازلُ الجسام، إلا أنني أزعم أن أعظم هذه الأحداث في تاريخ الإسلام بل في تاريخ البشرية، هو حادث الهجرة النبوية، والتي كانت بمثابة نقطة التحول الفاصلة التي غيرت مجرى التاريخ الإنساني!.
فقد كانت الهجرة منظومة متقنة عبقرية، وخطة محكمة ذكية، ولمحة دقيقة ألمعية، وملحمة خالدة أسطورية، ورحلةً ذات أعماقٍ وأبعادٍ ومقاصدَ خفية، من إحكام وتدبير رب البرية، بالإضافة إلى كونها مدرسةً بل جامعة مليئة بالدروس العلمية والعملية والتربوية.
فالله عز وجل شاء وقدر أن تكون البعثة في مكة، ثم يكون ما يكون وتكون الهجرة، ثم يكون النصر والتمكين في المدينة، وكأن الله أراد أن تكون الصيحة الأولى بالحق في مكة لا في المدينة، لتكون صيحةً في جوف بحر الباطل، صيحةً مدويَّةً في آذان السادة، وصميم القوة والسيادة، إعلانًا وتحديًا وإذعانًا، ويكون ما يلاقيه المسلمون الأوائل من مشقة واضطهاد بمثابة تمحيص وإعداد للجيل الذي سيحمل ويبلِّغُ ويناضل عن هذا الدين، وهذا وذاك لم يكن ليتأتى لو كانت البعثة في المدينة!، كما لم يكن التمكين في مكة حتى لا يكون التمكين من قبل أهل مكة تعصبًا لمحمدٍ ولينالوا به وبرسالته السيادة المطلقة على الجميع، فتكون العصبيةُ لمحمدٍ هي التي خلقت الإيمانَ بمحمد، ولكن ليكون الإيمانُ بمحمدٍ هو الذي خلق العصبية لمحمد صلى الله عليه وسلم!.
كما نتعلم من هذه الرحلة المباركة ضرورة التوكل الحق على الله الحق، مع الأخذ بالأسباب، فالنبي مع أنه رسول الله وهو ناصره، أخذ بكل الأسباب الممكنة: بالتخطيط، والتوقيت، واتخاذ الرفيق، وتغيير الطريق، واتخاذ الدليل، ومن يعمي على آثار الأقدام، ومن يأتي بالطعام، ومن يأتي بالأخبار، ثم يكون التوكل (لا تحزن إن الله معنا)، ونتعلم كذلك عدم اليأس، وضرورة التحلي بالثقة واليقين وحسن الظن في الله رب العالمين، وأن الله ناصرٌ دينه وأهله مهما كانت الظروف والشواهد ناطقة بغير ذلك، وأن من حفظ الله حفظه الله (وكان حقًا علينا نصر المؤمنين)، ونتعلم أيضًا أهمية البذل والتضحية في سبيل الله وفي سبيل كل مطلب، وأن الدعوة إلى الله تكون في كل مكان وزمان، ثم نتعرف كذلك على فضل ومكانة الصحابة الكرام وعظم حبهم للنبي وما عانوه وما قدموه في سبيل هذا الدين لا سيما الصديقُ أبو بكر وإخوانه من المهاجرين والأنصار، ثم أن الهجرة ركنٌ ركين، ومطلبٌ ثمين، في كل وقتٍ وحين، هجرة من الباطل إلى الحق، ومن الضلال إلى الهدى، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن البدعة إلى السنة، ومن الخطأ إلى الصواب، ومن الكسل إلى العمل، ومن السلبية إلى الإيجابية، ومن كل قبيح إلى كل جميل (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)
ومن الجدير بالذكر ختامًا، أن الهجرة لم تكن في شهر الله المحرم، وإنما كانت في شهر ربيعٍ الأول، إلا أن ذكرها ارتبط بمَقْدَم شهر الله المحرم كونه أول شهور العام العربي الذي اتخذ من حادثة الهجرة بداية تقويم وتأريخ.