في لهيب التساؤل الذي طرحناه في المقال الماضي لماذا اشترى ذلك الثري العربي هذه اللوحة ذات الـ45 مليو دولار، “مخلص العالم” للفنان ليوناردو دافنشي؟ ولماذا هذا المبلغ الضخم جدا؟ هل هو عشق للجمال الفني، وأن اقتناء لوحة شهيرة هو اقتناء لمدرسة فنية؟ أم هي تجارة؟ أم استثمار؟ وفي هذا السياق سألنا: ثم لماذا تتدخل الدول لشراء اللوحات العالمية وتدفع ملايين الدولارات؟ وهي تتجاوز بذلك المسألة الفردية.. فإحدى الدول الكبرى أصبحت في كل بورصة موجودة لتقديم أضخم الأرقام لشراء أية لوحة. نواصل اليوم كشف أسرار هذه اللعبة المدمرة، وهي لعبة تسخير الفنون الجميلة لصالح العبث بحضارات الشعوب وأذواقهم ووجدانهم، إذ إن المسألة كبيرة.. هناك علامات استفهام ضخمة وراءها.. أو قل هناك من يوظفها ليس فردا ولا جماعة ولكن قوى واتجاهات.. إنها شركات توظيف اللوحات… ويصاحبنا مصباح ينبعث من الحريق الذي يشعله كتاب (لعبة الفن الحديث)، الذي يثير الفزع من هول ما يتضمنه من حقائق تجعل الرأس يشتعل حيرة.. ومن قدرة مؤلفته الدكتورة زينب عبد العزيز على انتزاع الأقنعة وتمزيقها من وجوه (مافيا) هذه اللعبة الفنية، في ظاهرها البريء.. والسياسية في جوهرها المدمر. وقد استعرضت في الأسبوع الماضي المهاد الفكري الذي تدور عليه رؤية تسخير السياسة والاقتصاد للفن.. والتدمير المتعمد للحضارات.. وطمس وإلغاء شخصيات الشعوب المغلوبة على أمرها بهذه المذاهب والمدارس الفنية التي تسعى إلى تشكيل وجدان العالم على هوى هذه (القوى الكبرى) أو العصابات الفنية الإجرامية، التي تتخفى وراء أقنعة البراءة والتذوق والتغيير والتطوير والتحديث والعصرنة والتجديد. وهؤلاء يدركون أن للفن قدرة حاسمة على التغيير الجذري للمجتمعات والشعوب فاحتكروه، وأحكموا حلقات اللعبة الدولية الكبرى واتخذوا من شعوب العالم قطعا من الشطرنج يحركونها أينما شاؤوا وكيفما شاؤوا وأنى يشاؤون.. وتلك هي القضية التي تسعى المؤلفة إلى طرحها بأكثر من وسيلة.. بالتحليل والنتائج والوثائق والواقع وقراءة موضوعات الواقع في محاولة للخلاص، الذي يكمن في العودة إلى الذات ونبذ كل دخيل يخدم أهداف صناع هذه اللعبة والعودة إلى التراث القومي وجذوره، العودة إلى الأصول المميزة للشخصية الأصيلة المتأصلة والخالدة لكل بلد ولكل فنان، لتستقيم الرؤى ويستعيد الواقع وجهه الإنساني. والذي يلفت النظر ـفعلاـ أن بداية القرن العشرين تكشف عن مؤشر خطير يقود أكبر عملية تخريب عرفها التاريخ.. إنها اللعبة الكبرى التي تتم على مستويين في وقت واحد: سباق التسلح الذي يسانده أو يواكبه سباق في المجال الفني الثقافي، وما يعنينا في هذا المجال الأخير هو عملية تدمير الفن بالفن أو الوسيلة التي استخدم فيها الفن كعنصر أساسي لتحويل المجتمعات والأقليات، كما أن هذا السباق يبدو كأنه مزود بمهمة لا مواراة فيها: تفتيت المجتمع الإنساني وضبط إيقاع الحياة اليومية في شخص بعينه ليخدم مصالح بعينها، وتنميط الأشخاص ذلك التنميط الذي يؤدي إلى طمس معالم الأصالة الحضارية لكل بلد وضياع معالمها وإلى سحق كل الفنون بوحشية وإلى تنجير فن التصوير مما يبعد به عن روح الفن وبالمثل ترويض الجمهور. وقبل أن يكشف أولئك المدبرون الحقيقيون للعمليات التدميرية، الذين أخذوا على عاتقهم تحريك الدميالتي، غفلت عيون كثيرة عن الوعي بأهدافها الخفية تحت أشكال براقة من الصيغ.. تدعونا المؤلفة إلى النظر في خريطة المجتمع الإنساني في النصف الأول من هذا القرن حيث بداية اللعبة الخبيثة. علميا.. جرت الأبحاث المتصلة بالذرة وتفتيتها مع الاهتمام بالفضاء.. مع ثورة الإلكترونيات والاختراعات الحربية وكلها في خدمة الدمار والسيطرة على الشعوب. وفلسفيا.. كانت مبادئ (نيتشة) رائد المدمرين الذي كان يحلم بإنشاء جيل من المدمرين في كل مكان يقومون بالهدم والفوضى والتدمير من خلال اعتناق فلسفته (تدمير العالم بغية خلق عالم جديد ليس به أي شيء) (مذاهب الدادية) ثم مذهب (السريالية).. وكانت موجة الدمار العارمة مصحوبة بفوضى لا سابقة لها عبر التاريخ. وسياسيا.. تم تقسيم العالم إلى معسكرين بعد الحربين العظميين واستخدام القنابل الذرية.. وانقسم العالم إلى أيديولوجيتين مختلفتين شرقا وغربا، على حد تعبير المصطلح السياسي.. ومن الغرب وأمريكا بدأت لعبة الفن الحديث وانطلقت.. وفي نفس هذه الفترة بدأت الحرب الباردة من أجل السيطرة على عقل العالم.. والتي بزغ من خلالها مشروع (مارشال) لمساعدة أوروبا ثم حلف شمال الأطلنطي.. ولا يمكن أن نغفل أن هذه الفترة تمثل في الشرق تقسيم فلسطين وزرع الكيان الصهيوني في المنطقة العربية. وفنيا.. انطلقت هوجة من المذاهب العابرة وأداتها في استحداث الألفاظ والمواد وإحداث التحول الرهيب، لتصبح قيمة الفن الجمالية قيمة استثمارية وتجارية، بحيث تحولت (لوحات الفن) إلى (سندات بورصة).. وفي المسرح وجد (العبث) بكل مشتقاته.. وفي الموسيقى رأينا تنافر الأصوات وضجيج تلاطمها.. وفي مجال الفن المعماري وحدت التكرارية الشوهاء للتكتل الصماء المصفدة للحديد والصلب التي تمحو كل آثار التراث العمراني المحلي.. حتى الأسلوب واللغة اللذان يعدان أكثر مجالات التعبير والتحاور ارتباطا بالجنس البشري والتراث والتراث الوطني كاد يصيبها التصدع والدمار. وسط هذه المناخات.. أحكمت الأدوار.. وتعدد اللاعبون.. وكثر المؤدون الذين يعملون بحسن نية أو عن وعي بدورهم ووقوعهم في حبائل هذه القوى.. لكن مجموعة من شرفاء العالم كشفوا الأهداف الخفية وراء لعبة الفن الحديث.. وأخطرها فكرة التدمير التي سادت مطلع هذا القرن، واكتست بمظهرين من ناحية الشكل والمضمون هما: الحرب والفن الحديث.. الحرب كمجال عمل سياسي وعسكري.. والفن الحديث كمجال عمل نفسي ومعنوي وسياسي أيضا بقدر ما هو حرب تدميرية لكل تراث إنساني. و.. الفنانون.. وجامعو اللوحات وتجار الفن.. والبورصة والدعاية والإعلام.. هم عناصر الجهاز المحرك للعبة الفن الحديث (التشكيلي) الذي من خلاله أصبح الفن الحديث مجرد أداة احتيال رائعة للأموال العامة، فقد اتسع الانفصال بين الفنان والجمهور بسبب الدور الاقتصادي والجانب التقني الآلي في التعبير التشكيلي الذي تم فرضه بعامل السوق التجاري والمضاربة وإن لم يكن ذلك كله إلا شكلا، لأن الأيدي الخفية وراء هذا السباق أكثر تعقيدا من ذلك. ونستشهد بقول لأحد الفنانين الذي يزهو بأنه أشبه ما يكون برجال الأعمال، له أربعة مساعدين وسكرتيرة تعمل طيلة الوقت، وتسعة استوديوهات يصنعون فيها لوحاته ومئات المكالمات الهاتفية. وهكذا تفقد الصورة الملائكية براءتها وتفقد سحرها، لتتحول في ذهن القارئ إلى مجرد مؤسسة تقنية تجارية للإنتاج بالجملة. وكتب الناقد (جان ايلول) في كتابه (إمبراطورية اللامعنى) عن الفنان التجريدي الذي هو أكبر أداة من أدوات اللعبة ذات الأبعاد السياسية في جوهرها، أنه مسبق التجهيز بدرجة كبيرة مثله مثل رائد الفضاء في كبسولته، فهو يعلم تماما ما الذي يجب عليه أن يفعله في كل حالة وفي كل لحظة، إنه يعرف ذلك لأن الضرورة التقنية أصبحت بداخله وقد توحد بها بشدة، حتى إنه لا يعبر حقيقة إلا عما شحن به ومع تجهيزه في المستوى النفسي، والمستوى الخارجي وفقا للضرورة الأيديولوجية المفروضة.