المعركة الدبلوماسية التي شهدتها أروقة مجلس الأمن الدولي الجمعة الماضية (الأول من يونيو/ حزيران 2018) بين الوفد الكويتي ورئيسه السفير منصور العتيبي مدعوماً من أغلب الدول الأعضاء وبين الوفد الأمريكي ورئيسته نيكي هايلي حول مشروع قرار كويتي يطالب بتوفير حماية دولية للشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال “الإسرائيلي” كشفت بعمق حقيقة المشروع الأمريكي المزعوم للسلام الذي يحمل اسم “صفقة القرن”. فالمفترض أن هذا المشروع يحقق السلام الغائب بين دولة الاحتلال “الإسرائيلية” وبين الشعب الفلسطيني، ومن ثم فإنه، حتماً، يتضمن رؤى ومفاهيم أمريكية للطرفين المتصارعين: دولة الاحتلال والشعب الفلسطيني، وإذا كانت واشنطن قد تعمدت، لأسباب تخصها هي، إخفاء النص الأمريكي المعتمد لتلك “الصفقة” فإن مواقف الرئيس الأمريكي وأركان إدارته إزاء الطرفين “الإسرائيلي” والفلسطيني ابتداءً من قرار الاعتراف بالقدس “عاصمة موحدة وتاريخية” لدولة الاحتلال، مروراً بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس امتداداً إلى الانحياز الأمريكي المطلق لكل قرارات الاستيطان والتوسع والضم للأراضي المحتلة والتنكيل والقتل للشعب الفلسطيني دون وازع من أخلاق أو ضمير تكشف أن المشروع الأمريكي للسلام ليس إلا مشروعاً لنقل السيادة “الإسرائيلية” على القدس والضفة الغربية أو معظمهما على حساب الشعب الفلسطيني، الذي لا يختلف مصيره ومستقبله كثيراً، عند هذه الإدارة، عن مصير الهنود الحمر السكان الحقيقيين لشمال أمريكا.
وجاءت معركة نيكي هايلي، مسنودة من الرئيس ترامب وإدارته، لإسقاط مشروع الكويت بطلب توفير حماية دولية للشعب الفلسطيني من القتل والتنكيل الذي يتعرض له على أيدي قوات الاحتلال لتؤكد رفض الإدارة الأمريكية توفير أي نوع من الحماية لهذا الشعب، فالشعب الفلسطيني مطلوب إبادته وليس حمايته، وإذا كانت الإبادة الجسدية لم تعد ممكنة هذه الأيام فلتكن إبادة سياسية عن طريق ما تتضمنه “صفقة قرن دونالد ترامب”.
ما يؤكد ذلك اعتراض هايلي على مشروع قرار يدين الجرائم “الإسرائيلية” بل والمجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال ضد المتظاهرين السلميين على طول خط الفصل (وليس خط الحدود) بين قطاع غزة والكيان يوم احتفال دولة الاحتلال وواشنطن بالعيد السبعيني لتأسيس الكيان وبتدشين نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس. فقد رفضت المندوبة الأمريكية صدور بيان من مجلس الأمن يدين قتل 60 فلسطينياً بينهم أطفال ونساء ورجال إسعاف وإصابة أكثر من 2000 في ذلك اليوم، وكان تعليقها على تلك المجزرة أن “إسرائيل” مارست “ضبط النفس” أثناء تلك المجزرة. ما يعني أنها ترى أن جنود الاحتلال كانوا في قمة إنسانيتهم ويعبرون عن “الديمقراطية المتفردة” لدولتهم عندما اكتفوا بقتل وإصابة كل هذا العدد من المتظاهرين السلميين في ذلك اليوم المشؤوم.
ما يؤكد ذلك أيضاً أن قرار الفيتو لإسقاط مشروع كويتي يطالب بتوفير حماية دولية للشعب الفلسطيني سبقته بأسابيع زيارة وزير الخارجية الأمريكي الجديد “مايك بومبيو” للكيان، وهناك، وفور لقائه برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، بادر بالقول “أنتم شركاء هامون للغاية، وهناك مكان خاص في قلبي مخصص لكم”، كما سبقه بأسبوع فقط إصدار المحكمة “الإسرائيلية” حكمها (23/5/2018)، والصادر بإجماع قضاتها والقاضي برفض التماس تقدمت به في شهر أبريل/ نيسان الماضي منظمات حقوقية فلسطينية و”إسرائيلية” تطالب فيه بإجبار الجيش “الإسرائيلي” على التوقف عن إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين الفلسطينيين على الحدود بين قطاع غزة والكيان. وقالت رئيسة هذه المحكمة “إستير حيوت” أن المحكمة أيدت موقف الحكومة القائل بأن المحتجين على الحدود بين “إسرائيل” وغزة ليسوا متظاهرين سلميين بل هم أطراف في “نزاع مسلح” بين “إسرائيل” وحركة “حماس” والتي تسيطر على القطاع.
وجاء استخدام نيكي هايلي رئيسة الوفد الأمريكي في مجلس الأمن لحق الاعتراض “الفيتو” على مشروع قرار توفير الحماية للشعب الفلسطيني متطابقاً ومنسجماً مع حيثيات هذا الحكم القضائي الداعم للاستمرار في قتل المتظاهرين السلميين، رغم أن لا المحكمة “الإسرائيلية” التي أصدرت ذلك الحكم، ولا نيكي هايلي التي استخدمت ذلك “الفيتو” قدما أي دليل مادي لأي إصابة واحدة وقعت في صفوف العسكريين أو المدنيين “الإسرائيليين” في ذلك اليوم الذي ارتكبت فيه قوات الاحتلال مجزرتها ضد المتظاهرين السلميين عندما كانت إدارة ترامب وحكومة نتنياهو تحتفلان بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
بررت نيكي هايلي استخدامها الفيتو ضد مشروع قرار حماية الشعب الفلسطيني لأن هذا المشروع لم يأخذ بالطلبات والإضافات التي قدمتها إلى رئيس الوفد الكويتي في مجلس الأمن وكانت هذه الطلبات أو الإضافات تنص على “التنديد، بأشد العبارات الممكنة” بقيام حركة “حماس” بإطلاق الصواريخ والقذائف على “إسرائيل”، وتشطب أي عبارة تشير إلى مقتل عشرات الفلسطينيين وجرح آلاف المدنيين الفلسطينيين بالنيران “الإسرائيلية”، بل وشطب كل عبارة ترد في النص الأصلي للمشروع عن “الاحتلال” (ما يعني أن واشنطن لا ترى الضفة وغزة أرضاً محتلة)، فضلاً عن شطب طلب الحماية الدولية للشعب الفلسطيني”.
هذه الطلبات هي التي تكشف المضمون الحقيقي لـ “صفقة ترامب” المزعومة. وإذا كان مشروع الكويت بطلب الحماية الدولية للشعب الفلسطيني قد أيدته عشرة دول من أعضاء المجلس (البالغ عددهم 15 عضواً)، ومن ثم كان يمكن أن يصدر لولا الفيتو الأمريكي، ما يعني أن معظم العالم مع حقوق الشعب الفلسطيني، فإن أي دولة لم تؤيد مشروع القرار الذي أعدته نيكي هايلي في مواجهة المشروع الكويتي، ويدافع عن حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها ويلقي بمسئولية العنف على حركة “حماس”، وهذا بدوره تصويت دولي آخر ليس فقط مع حقوق العشب الفلسطيني، بل وأيضاً ضد مضامين المشروع الأمريكي للسلام.