أحب كل ما يتعلق بالطيران حبا جما. و أعتقد أنه لو لم أحترف وظيفة أستاذ جامعى، لأخترت مهنة قائد طائرة. كل ما يطير يثير خيالى: و حماسى و فضولى: من الطائرات الورقية إلى مركبات الفضاء. و من اهتماماتى فى مدينة فايد فى الشتاء مشاهدة الطيور المهاجرة التى تحتمى بمناخ البحيرات المرة الكبرى الدافئ هربا من برد الشمال القارس. و عندما أكون خارج مصر أحرص على مشاهدة معارض الطيران الدولية. و أذكر أننى فى إحدى الزيارات لبريطانيا قمت بتعديل برنامج زيارتنا لكى نشاهد مع أصدقاء لنا من المقيمين فى إنجلنرا معرض الطيران الدولى فى مدينة فارنبورو بالقرب من لندن. وهو من أكبر معارض الطيران فى العالم، و ينظم كل سنتين، بالتناوب مع معرض باريس الدولى للطيران. و كم كانت الزيارة بالنسبة لى متعة ما بعدها متعة. و بالمناسبة، فقد بدأ هذا المعرض منذ يومين و يستمر لمدة أسبوع.
ولى مع الطائرات قصص و مغامرات. فعندما أكون مسافرا بالجو، لا أضيع فرصة زيارة قمرة (كابينة) القيادة فى الطائرة وأن أتبادل أطراف الحديث مع القائد كلما تيسر لى ذلك. و فى إحدى المرات، كنت مسافرا إلى هلسنكى للاشتراك بورقة عن مصر فى مؤتمر ينظمه المعهد العالمى لبحوث إقتصادات التنمية التابع لجامعة الأمم المتحدة حول السياسات البديلة لسياسات التثبيت والتكيف الهيكلى التى تفرضها مؤسسات بريتون وودز (صندوق النقد الدولى و البنك الدولى). بعد استقرار الطائرة فى مسارها الجوى استشعرت أن الظرف مهيأة لزيارة قمرة القيادة. استدعيت المضيفة و عرفتها بنفسى وبهوايتى وطلبت منها إسئئذان قائد الطائرة فى أن أزوره. و قد كان. دخلت قمرة القيادة حيث كان القائد ومساعده، فرحبا بى و دعانى القائد للجلوس فى المقعد المجاور. كان ذلك منذ 30 سنة قبل التطور الهائل فى مجال الطيران المدنى. عبرت عن دهشتى للعدد الهائل من العدادات. سألت القائد فأجاب أنها بالنسبة لهم مجموعات: مجموعة لكل محرك و مجموعة للذيل،…، و هكذا. ثم تصفح معى دفتر الطائرة الذى يبين عدد ساعات طيرانها و مواعيد الصيانة بأنواعها. ثم شرح ما يتم فى ظروف الطوارئ. شكرته و انصرفت.
أما المغامرة الحقيقية فكانت على متن طائرة من طراز بوينج 747 متجهة من نيوبورك إلى لوس أنجليس. بعد استقرار الطائرة فى الجو، وضعها قائدها على جهاز الطيران الذاتى و أخذ يتجول بين الركاب و يتبادل الحديث معهم. قدرت أن الظرف مناسب لزيارة الكابينة. انتظرت حتى عاد من جولته و اتجهت نحو الكابينة. كنا منتصف السبعينيات من القرن الماضى، و كان اختطاف الطائرات أمرا متكررا. و عندما رأتنى المضيفة التى كانت تقف بالقرب من قمرة القيادة، أصابها ذعر واضح و أحمر وجهها ووقفت متسمرة أمامى رافعة ذراعيا بمستوى كتفيها لتمنع تقدمى. أدركت أنها تصورت أننى أعتزم اختطاف الطائرة. فقلت لها بثبات: «هدئى من روعك، فأنا فلان الفلانى الأستاذ بجامعة كذا، و لدى هواية الإطلاع على الأجهزة الملاحية فى غرفة القيادة فى الطائرات.» لم تقتنع المضيفة بكلامى، إذ كان مظهرى بالملابس ال»كاجوال» و ملامحى الشرق أوسطية توحى بأننى أقرب إلى خاطفى الطائرات منى إلى أستاذ جامعى!. لكن ما أنقذ الموقف أن الكابتن سمع حوارنا فخرج على الفور. و بعد أن قدمت نفسى له دعانى بترحاب إلى قمرته. و تبادلنا حوارا مثيرا استمر حوالى ساعتين. و خرجت منه بحصيلة كبيرة من المعلومات عن البوينج 747 -عملاق الجو وقتها.
وعندما كنت وزيرا للتموين سافرت إلى مرسى مطروح ومعى اللواء دكتور على صبرى وزير الدولة للإنتاج الحربى وقتها لافتتاح مخبز مليونى هناك. وبعد افتتاح المخبز وتفقده والحديث مع المحافظ والقيادات المحلية فى محافظة مطروح أردنا العودة إلى القاهرة فى أسرع وقت. و كانت الوسيلة الوحيدة هى أن نركب إحدى طائرات النقل العسكرية العملاقة التى تصادف أنها كانت متجهة إلى القاهرة. لم يكن المقعد فى الطائرة مريحا وكانت الكابينة ضيقة. لكن صحبة الدكتور على صبرى والمعلومات التى قدمها لى عن الطائرة باعتباره طيارا سابقا هونت من عناء الرحلة كثيرا. فكرت بتلقائية أن أطلب منهم أن اسندوا إلى قيادة الطائرة ولو للحظة. ولكن ادراك العواقب منعتنى من البوح بذلك واكتشفت أن العدادات الكثيرة التى كانت تملأ غرف القيادة قد اختفت وحل محلها عدد قليل جدا من الشاشات. وعلى هذه الشاشات المحدودة يمكن متابعة المعلومات المطلوبة والتى تستدعى من حاسوب الطائرة بمجرد نقرة واحدة على أحد الأزرار. فكما يقول المثل «قد الفيل و تنصر ف منديل.»