لا شك في خطورة الأنشطة الإرهابية عبر الإنترنت وضرورة الحد منها والقضاء عليها، لكن إنجاز هذه المهمة يثير العديد من الإشكاليات ترتبط بإمكان قيام تعاون دولي عابر للقوميات، وتشريعات وقوانين جديدة تواكب ظاهرة الإرهاب المعولم، إضافة إلى استحداث منظمات وآليات قادرة على مواجهة عدو غير تقليدي، يستفيد من إمكانات شبكة الإنترنت، وجاذبية وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً بين شباب العالم.
وأثبتت بحوث ودراسات عدة أن الأفكار والجماعات المتطرفة وجدت في وسائل الإعلام الجديد فضاءً لممارسة الدعاية والتجنيد والتمويل والتشبيك عبر العالم، وفي هذا السياق أصدرت الـ «يونيسكو» بحثاً بعنوان «الشباب والتطرف العنيف على شبكات التواصل الاجتماعي»، استعرض أكثر من 550 دراسة منشورة، من الدراسات العلمية و «المنشورات غير الرسمية»، التي تغطي عناوين صادرة باللغات (الإنكليزية، الفرنسية، العربية والصينية). ويكشف البحث عن انتشار المتطرفين العنيفين انتشاراً كبيراً في كل أرجاء الإنترنت. فثمة قدر متنام من المعارف في شأن طريقة استخدام الإرهابيين للفضاء السيبراني، بيد أن أثر هذا الاستخدام لا يزال أقل وضوحاً، بل الأكثر غموضاً منه هو مدى فعالية التدابير المضادة.
وأعتقد أن الإجراءات المضادة أو سياسات وإجراءات مواجهة التطرف عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد قد تأخرت قليلاً، نتيجة عدم وجود تشريعات وقوانين محلية أو أجهزة مختصة، علاوة على إشكاليات التنسيق والتعاون مع الشركات الكبرى التي تمتلك وتدير وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الأخرى عبر الإنترنت، والتي أساء المتطرفون والإرهابيون استخدامها. ويمكن القول إن غالبية دول العالم، وفي مقدمها الولايات المتحدة والمفوضية الأوروبية، قد ضاعفت خلال العامين الأخيرين أنشطتها لمواجهة الأفكار والجماعات المتطرفة عبر الإنترنت، والتوصل إلى تفاهمات مع الشركات الكبرى التي تدير وسائل التواصل الاجتماعي، والشركات المصنعة للهواتف للتعاون معها في مكافحة الإرهاب عبر الإنترنت. كما نجحت حكومات عدة في محاربة إرهاب «داعش» الرقمي، وذلك من خلال الوسائل التقنية، وتطهير الإنترنت من كافة المحتويات الإرهابية، وإغلاق الحسابات التي يتداولها التنظيم، وعلى رغم تلك الجهود المبذولة تبقى هناك مساحات واسعة في الفضاء الإلكتروني يستفيد منها تنظيم «داعش» لتحقيق أهدافه، خصوصاً بعد انهيار ما يُعرَف بـ «دولة الخلافة».
وبالنسبة للشركات التي تمتلك وتدير وسائل التواصل الاجتماعي فإنها بدأت تستجيب لطلبات الدول والمواطنين الخاصة بتفعيل دورها في محاربة التطرف والإرهاب، بحيث لا تسمح للإرهابيين بالاستفادة من منصاتها المجانية والمنتشرة على نطاق واسع. وتُظهر الأرقام التي نشرتها مواقع «تويتر» و «فايسبوك» و «غوغل» أن هناك ملايين الحسابات التي جرى إغلاقها لارتباطها بأنشطة إرهابية، وفي كانون الأول (ديسمبر) 2016 شكّل «تويتر» شراكة عالمية مع شركات «فايسبوك» و «مايكروسوفت» و «يوتيوب»، بهدف تسريع عملية كشف المحتوى «ذي الطابع الإرهابي» على شبكة الإنترنت ووقف انتشاره. وقررت الشركات الأميركية الأربع إنشاء قاعدة بيانات مشتركة تتضمن «البصمات الرقمية» للصور أو شرائط الفيديو الترويجية والمُعدة للاستقطاب والتجنيد، التي يتم نشرها على منصاتها.
وعلى رغم أهمية واتساع جهود مكافحة خطاب العنف والإرهاب عبر الإعلام الرقمي إلا أن هناك صعوبات وإشكاليات تستحق المناقشة، واتخاذ مزيد من إجراءات المكافحة. في هذا السياق يقول تقرير NEW NETWAR إن «جوهر الأنشطة الإرهابية على الإنترنت متجذر في تطبيق التليغرام، ولديه مخالب عبر مئات الخوادم المختلفة، فهي مرنة وتصل إلى الجمهور، الذين يزيد عددهم على عشرات الآلاف على أقل تقدير، بما في ذلك أعداد كبيرة من المستخدمين في المملكة المتحدة. وأشارت مقدمة التقرير إلى أن الجهاديين «استغلوا المساحات غير المراقبة جيداً، أو تلك التي من دون رقابة على الإطلاق في العالم الإسلامي». مضيفاً: «أنهم يستغلون أيضاً المساحات الضخمة غير الخاضعة للرقابة إلى حد كبير في الفضاء السيبراني، مما يدل على زيادة الخبرة التقنية لدى الإرهابيين، وتطورها في الإنتاج الإعلامي.
وأظن أن التقرير السابق يكشف عن أن كافة الجهود المحلية والدولية، على أهميتها وشمولها، لم تتمكن من وضع نهاية لخطاب التطرف والإرهاب، ما يثير عدد من الإشكاليات تتطلب حلولاً نظرية وعملية، ولعل أهمها:
1- إشكالية هل وسائل التواصل الاجتماعي هي أداة رئيسة لنشر الأفكار المتطرفة، والتلاعب بعقول ومشاعر الشباب ومن ثم تجنيدهم، أم أنها مجرد أداة محدودة، تؤثر فقط في قطاع محدود من الشباب الذي يعاني من مشكلات نفسية أو اجتماعية، ويعاني من التهميش والبحث عن هوية أو ربما مغامرة. بعبارة أخرى هل هي سبب أم عرض لمرض!!. إن هذه الإشكالية تطرح مناهج وحلولاً مختلفة في التعامل مع الظاهرة، ما قد يُربك أحياناً جهود التصدي للأفكار والأنشطة الإرهابية عبر الإنترنت.
2- ضعف بنية الشبكات المعلوماتية إزاء خطابات التطرف والإرهاب وقابليتها للاختراق بسهولة، لأن شبكات المعلومات مُصممة في الأصل بشكل مفتوح من دون قيود أو حواجز أمنية عليها، وذلك رغبة منها في التوسع وتسهيل دخول المستخدمين، والحفاظ على خصوصيتهم، وتحتوي الأنظمة الإلكترونية والشبكات المعلوماتية على ثغرات معلوماتية يمكن للمنظمات الإرهابية استغلالها في التسلل إلى البني المعلوماتية التحتية، وممارسة العمليات التخريبية والإرهابية. ويعتمد الإرهابيون بشكل متزايد على تكنولوجيا «سورام كاست»، وهي شبكة مترابطة تعيد تشكيل نفسها باستمرار، وتتمتع بقدرة عالية على المواجهة. كما يجري نشر المضامين والصور والأفلام الدعائية للفكر الإرهابي عبر نظام إيكولوجي واسع من المنصات، وخدمات تبادل الملفات والمواقع الإلكترونية، ووسائل الإعلام الاجتماعية.
3- إشكالية الحفاظ على الخصوصية وسرية البيانات التي تلتزم بها وسائل الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي، مما يؤدي إلى تدني مستوى المخاطرة، حيث يستطيع محترف الكومبيوتر أن يمتلك عدداً كبيراً من الحسابات والهويات الوهمية، ويقدِّم نفسه بالهوية والصفة التي يرغب بها، أو يتخفى تحت شخصية وهمية، ويطلق على نفسه ألقاباً أو أسماء مستعارة، ويؤيدها بأدلة مادية ملموسة كالصور أو بعض المعلومات الصحيحة ليثبت جديته، ومن ثم يستطيع أن ينشر أفكاراً ومضامين متطرفة تدعو للإرهاب، أو يشن هجوماً إلكترونياً عابراً للحدود الجغرافية والثقافية، كل ذلك وهو مسترخٍ في منزله، من دون مخاطرة مباشرة، وبعيداً من أعين الناظرين.
4- سهولة الاستخدام التقني وقلة التكلفة المادية، فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، وجميع وسائل التواصل الإلكتروني، زهيدة التكلفة، ومتوافرة في جميع دول العالم، بخلاف فترة الثمانينات من القرن الماضي مثلاً. إن السمة العولمية لشبكات المعلومات تتمثل في كونها وسيلة سهلة الاستخدام، طيعة الانقياد، قليلة الكلفة، لا تستغرق وقتاً ولا جهداً كبيراً، مما هيأ للإرهابيين فرصة ثمينة للوصول إلى أهدافهم غير المشروعة، ومن دون الحاجة إلى مصادر تمويل ضخمة.
5- إشكالية الطبيعة الحرة لشبكة الإنترنت باعتبارها مجالاً عاماً للتفاعلات الوطنية والدولية، أدى إلى وجود فراغ تنظيمي وقانوني، وغياب جهات أو منظمات تختص بمهام السيطرة والرقابة على الشبكات المعلوماتية. والمفارقة أن هناك بعض منظمات المجتمع المدني، خصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة، تدافع عن حرية الإنترنت واحترام الخصوصية، وتدعو لعدم التدخل بالتنظيم أو الرقابة والمنع. ولا شك أن هذا النقاش العالمي، مع استمرار الغياب التنظيمي والقانوني لشبكة الإنترنت، كان من بين الأسباب الرئيسة في انتشار الإرهاب الإلكتروني.
6- عدم وجود تشريعات كافية وحديثة على المستوى الوطني والدولي لمعالجة هذا النوع من الجرائم، حتى يسهل تحديد آليات للتحقيق فيه. وكذلك عدم مواكبة التشريعات المختلفة هذا التطور الملحوظ في الجرائم المعلوماتية. وحتى بافتراض وجود قوانين تجريمية متكاملة، فإن المجرم يستطيع الانطلاق إلى بلد لا توجد فيه قوانين صارمة، ثم يقوم من هناك بشن هجومه الإرهابي على بلد آخر توجد به قوانين صارمة، وهنا تثار إشكالية تنازع القوانين الواجب تطبيقها.
7- إشكالية التركيز على إجراءات الرقابة والمنع للمضامين والأفلام والصور التي تدعو للتطرف والإرهاب، وفي الوقت نفسه قلة الاهتمام بمحو الأمية الإعلامية والمعلوماتية، وإنتاج خطابات مضادة للتطرف والإرهاب عبر كافة منصات الإعلام الرقمي. وأعتقد أن هناك ضرورة لنشر أخلاقيات التعامل مع الإعلام الجديد بين المواطنين، وذلك لمنع سوء استغلال الإرهابيين لمقولات الخصوصية وحرية الإنترنت. القصد أن نشر الوعي بين الأفراد والجماعات بأخلاقيات استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، من شأنه تحصين المجتمع من استهلاك مضامين تدعو للعنف والإرهاب، وتشجيع الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني للانخراط في الجهود الوطنية والدولية لمكافحة التطرف والإرهاب عبر الإعلام الرقمي.
8- إشكالية عدم وجود خطط استراتيجية شاملة ومترابطة لمكافحة خطاب التطرف والإرهاب مبنية على دراسات ميدانية، مما يخلق صعوبات عدة تتعلق بتنسيق وتوحيد الجهود بين أجهزة الدول المختلفة لمواجهة خطر الإرهاب الإلكتروني، والذي يعمل على أساس دولي عابر للقوميات والثقافات والحدود بين الدول، بينما تتركز معظم أنشطة المواجهة على إجراءات وأجهزة وطنية محلية، ما يطرح أهمية وضرورة التعاون العربي والدولي. لكن التعاون والتنسيق الدوليين يعانيان من إشكاليات تضارب المصالح، واختلاف الأولويات، وصراع الأجهزة في بعض الأحيان.