جديد الأزمة السورية هو عودة أمريكية قوية إلى سوريا في وقت كانت كل التوقعات تتجه نحو ترجيح حسم هذه الأزمة على النحو الذي تريده روسيا بالتنسيق مع حلفائها (النظام السوري وإيران وتركيا) بعد نجاح الجيش السوري في بسط سيطرته بدعم من الحلفاء على معظم أنحاء سوريا واستعداده الكامل لتصفية “بؤرة الإرهاب” المتبقية والمتمركزة في أدلب شمال سوريا. كانت البداية هي صراخ أمريكي- بريطاني- فرنسي يحذر الرئيس السوري من استخدام أسلحة كيماوية في المعركة القادمة في إدلب، والتلويح بتدخل عسكري أو ضربة عسكرية قوية للجيش السوري لمعاقبته على مثل هذه الجريمة، لكن بعد ذلك بدأت تتكشف الخطط والأوراق، وإعلان جدية العزم الأمريكي على بقاء طويل “غير شرعي” في سوريا بذريعة “الانتهاء من إلحاق هزيمة كاملة لتنظيم (داعش) وهي عملية تتطلب وقتاً طويلاً”.
قد يكون هذا التوجه مفاجئاً، بعد فترة طويلة من التردد الأمريكي عن الدخول القوي إلى سوريا التزاماً بتفاهمات روسية- أمريكية، وربما أيضاً روسية- إسرائيلية، ظهرت في قمة هلسنكي بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين (يوليو 2018) وتضمنتها لقاءات متعددة في موسكو لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو مع الرئيس الروسي تركزت حول ما تراه إسرائيل “مطالب شرعية” في سوريا رافضة لأي وجود عسكري أو نفوذ سياسي لإيران في سوريا. العودة الأمريكية عن مضامين هذه الاتفاقات جاءت مفاجئة للحسابات الروسية في سوريا، أما المفاجأة الصادمة، عن حق، فهي احتمال وجود تورط تركي في هذه العودة الأمريكية الجديدة إلى سوريا، على الرغم من الأزمة المتفاقمة في العلاقات التركية- الأمريكية والتي محورها الانحياز الأمريكي للمعارضة الكردية السورية على أجزاء كبيرة شمال سوريا تراها أنقرة تهديداً خطيراً للأمن القومي التركي، باعتبار أن هذه المعارضة الكردية السورية أحد أجنحة حزب العمال الكردستاني التركي الذي تتهمه أنقرة بالإرهاب، وعلى الرغم مما يبدو تحالفاً تركياً مع روسيا طيلة الأشهر الماضية كان محورها التعاون حول الأزمة السورية.
هل حصل أردوغان على تعهدات أمريكية بدعم أطماعه في سوريا تفوق ما يحصل عليه من روسيا؟ وهل لدى تركيا استعداد لخسارة الحليف الروسي وصفقة صواريخ “اس 400” الروسية؟
طرح هذين السؤالين يدفعنا إلى طرح سؤال ثالث ربما يكون أكثر أهمية وهو هل هناك خطة مشتركة أمريكية – تركية بخصوص شمال سوريا: شرق الفرات وغربه على حساب النفوذ الروسي، كخطوة لإرباك روسيا وحلفاءها وبالتحديد النظام السوري وإيران توطئة للتخلص من الاثنين معاً؟
من الصعب حسم الإجابة على هذا السؤال بـ “نعم” أو “لا”، حيث تقع الإجابة، حتى الآن، بين المنزلتين لحين تتكشف كل الأوراق الخفية ويتكشف الدور المريب الذي لعبه الرئيس التركي في قمة طهران الثلاثية التي عقدت يوم الجمعة الماضي (7/9/2018) بين رؤساء: إيران وروسيا وتركيا لحسم موضوع التصفية العسكرية للبؤرة الإرهابية المتبقية في إدلب، والتوافق على خريطة طريق لانتشار الجيش السوري في هذه المحافظة.
موقف الرئيس التركي في هذه القمة هو أحد أهم مؤشرات تورط أردوغان في خطة أمريكية غير معلنة تسمح بوجود تركي قوي في محافظات الشمال السوري خاصة إدلب وحلب على حساب الجيش السوري وحلفاءه الروس والإيرانيين. فقد أفشل الرئيس التركي هذه القمة وحال دون صدور قرار واضح وصريح بخصوص خطة الحل العسكري لأزمة إدلب كما تريدها روسيا وسوريا وإيران. فقد تمسك أردوغان بإبقاء الوضع على ما هو عليه بالمحافظة، وإعلان وقف لإطلاق النار، معتبراً أن التوصل إلى هذا الاتفاق سيكون “نصراً للقمة”، مع الدعوة لاستمرار جهود فصل الإرهابيين (جبهة النصرة) عن باقي فصائل المعارضة المسلحة في إدلب. كان واضحاً أن أردوغان يريد تفويضاً روسياً- إيرانياً بأن تتولى تركيا مسئولية حل “أزمة إدلب” طبعاً على النحو الذي يبقي تركيا قوة مسيطرة ومهيمنة، وهذا يتطلب الحفاظ على وجود المعارضة المسلحة الحليفة قوية ومؤثرة باعتبارها “أدوات تركية”، مع تعويل على أن يؤدي هذا الدور التركي مستقبلاً إلى فرض السيطرة التركية على الشمال السوري توطئة لتجديد المطالب التركية بضم أجزاء كبيرة من هذا الشمال إلى تركيا.
موقف أردوغان ودوره في إفشال قمة طهران لم يأت من فراغ. فقد زار أنقرة جيمس جيفري المبعوث الأمريكي الجديد الخاص بالملف السوري الثلاثاء (4/8/2018) قادماً من الأردن بعد زيارة لإسرائيل للتباحث حول الخطة الأمريكية الجديدة الخاصة بسوريا، وهناك ما يؤكد أن جيفري حمل معه عروضاً للأتراك تتضمن وقف مسار التعاون الروسي والإيراني في إدلب، ما يعني تجنيد تركيا ضمن المشروع الأمريكي المناوئ لروسيا، والذي أعلنته واشنطن في 18 أغسطس الفائت بتأكيد استمرار وجودها العسكري في سوريا، مؤكدة أنه “ليس هناك موعد زمني محدد لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي في سوريا”.
هذا المشروع هدفه إفشال روسيا في سوريا وعدم تمكينها هي وحلفاءها من جني ثمار انتصار عسكري على الأراضي السورية، وتم التعبير عنه عبر العديد من المؤشرات أبرزها تشكيل فريق عمل متخصص على رأسه جيمس جيفري السفير الأمريكي الأسبق في أنقرة وبغداد لتنفيذ خطة سبق أن أعدها ضمن فريق خبراء “مركز واشنطن لدراسات الشرق الأدنى”، المؤشر الثاني هو تعمد واشنطن إفشال أول لقاء جمع المستشار الأمريكي للأمن القومي جون بولتون مع نظيره الروسي نيكولاي باتروشيف الذي عقد في جنيف (23/8/2018) حيث رفض بولتون المقترحات الروسية لمعالجة أزمة الوجود الإيراني في سوريا، أما المؤشر الثالث، فهو الربط الأمريكي بين المساعدة في إعادة تعمير سوريا وبين مضامين الحل السياسي الذي تريده واشنطن للأزمة في سوريا وبالتحديد إبعاد الرئيس بشار الأسد عن مستقبل سوريا وإخراج إيران كاملاً من سوريا.