اعتدت دائما قراءة السطور الخفية في معظم الظواهر أو المشكلات التي تنتاب مجتمعاتنا العربية، لا سيما الظواهر المتعلقة بالجوانب النفسية أو السوسيو اقتصادية، التي عادت ما تكون نتائجها جنائية، ويقف القانون أحيانًا عاجزا عن التعامل معها.. مثل جرائم أو قضايا “تأجير الأرحام” و”تبادل الزوجات” وأخيرًا قضية “سينجل مازر” أو الأم العزباء!
وفي قضية تبادل الزوجات بالتحديد لم أنس ما قاله أحد المشرعين، حينما لم يجد القاضي سندًا في القانون لمعاقبة المتورطين في القضية، أنه “لم يتوقع المشرعون أبدا أن يأتي عليهم زمن يتخلى فيه الرجل عن “نخوته” ويسلم زوجته لرجلٍ آخر!
ولم أقصد في هذا المقال مراجعة القضايا أو الجرائم الاجتماعية المستحدثة، التي صارت عنوانا عريضا لحقبة زمنية غريبة؛ اختلف فيها بعض فقهاء الدين الإسلامي حول تفسير آيات القرآن، فشكك البعض في الأسانيد الشرعية للبعض الآخر، كما شككوا في قوة بعض الأحاديث النبوية، وفي أخلاق ومرجعية المفسرين السابقين، بدعوى حرية الفكر والتفسير ومقتضيات التنوير، بصورة أحدثت بلبلة، ودفعت كثيرًا من الشباب إلى التشكك في ثوابت الدين، وزجت ببعض منهم في مسارات “الإلحاد”!
ومن ثم فلم يعد اختلافهم رحمة، كما كان يقال في السابق، بل بات اختلافهم عذابًا ووبالًا على المجتمع، مما تسبب في انهيار وتراجع دولة القيم، في ظل الغياب شبه الكامل لدور الدولة في دراسة بواعث الاختلاف، ومغامرة على وحدة الصف المصري، وعلى أخلاقياته بوجه عام!
وفي ظل هذا التراجع السريع لدولة القيم بات “الاتجار بالموت” تجارة كسائر الأنشطة الاقتصادية أو هو أحد البدائل الفاعلة في مواجهة الأزمات اليومية التي يعيشها بالمواطن.. والصور على ذلك كثيرة.. فتعاطى المخدرات في ذاته إقدام على الانتحار. والانضمام إلى الجماعات الإرهابية طريق إلى الموت.. والهجرة غير الشرعية هي محاولة ناجحة من محاولات الإنتحار.. فلا أنسى أيضا ما قاله أحد ضحايا الهجرة غير الشرعية حينما سُئِلَ “لماذا تهاجر وأنت تعلم أنك ربما تموت؟! فأجابهم بعبارة كلها بلاغة:
“حينما أهاجر ربما أجد هناك فرصة للحياة، أما هنا فأنا شبه مَيّت، وأن الأمل في الحياة مفقود”!
فلا شك أن الإقبال على الانتحار في مصر صار ظاهرة تستحق الاهتمام، خاصة بعدما رصد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أكثر من 104 آلاف محاولة للانتحار وقعت في مصر عام 2009م. نحو 68 % منهم من النساء.. وأكد أن أكثر من 18 ألف محاولة للانتحار وقعت في 2011م بعد ثورة يناير؛ بسبب ضيق العيش، أغلبهم من الشباب تحت الأربعين..
مضيفا أن جريمة الانتحار في مصر، أصبحت ظاهرة خطيرة، تتصاعد يوما بعد الآخر! حيث تشهد مصر نحو 3 آلاف حالة محاولة انتحار سنويًا، جميعهم من الشباب، وأن خمسة أشخاص من بين كل ألف شخص يحاولون الانتحار بهدف التخلص من أزماتهم اليومية!
وعلى الرغم من أن العُنوسة والفقر يأتيان على رأس قائمة المسببات للانتحار، إلا أن دخول الأطفال في ماراثون الانتحار، بات الأمر الأشد خطورة! فيكفي أن نقرأ سويًا الرسالة التي تركها “طفل” بني سويف “المنتحر” إلى والديه، التي قال فيها: “سامحوني فقد اعتدت الكذب عليكم ولا أستطيع التمادي، أعلم أن الانتحار حرام، لكن الله أعلم بحالي..” لكي نعرف حجم الكارثة ومساحة الارتباك والتخبط التي عاشها المجتمع المصري بعد ثورة يناير رجال ونساء، وأطفال وشيوخ!
ونرصد عن كثب كيف ساعد علماء الدين باختلافاتهم المذهبية في نزع “رهبة الموت من صدور الأبرياء”؟ أو كيف أغلقوا بتشدداتهم في تفسير الدين كل منافذ الرحمة في أعين البسطاء؟ وكيف نجحوا في جعلهم يكرهون الدنيا ويلفظونها بكل مُتَعِها؟ كيف نجحوا في جعلهم يوقنون أن الدنيا دار خراب، وليس عليهم أن يُعمروها؟
كل هذه الأسئلة جعلتني أتساءل لماذا حين نسمع بانتحار شخص؛ نتهمه سريعا بالكفر، دون مناقشة موضوعية للأسباب التي دفعته لذلك؟ لماذا ننظر إليه دائما على أنه جانى وليس ضحية لجملة من الأسباب والمشاعر والمفاهيم الخاطئة التي زرعها شيوخ الفتنة في مُخَيَلتِه المتواضعة؟!
فقد تعلمنا في مدارسنا أن الإيمان يقتضي تفضيل الموت عن الحياة.. وأن الجنة مرهونة بالحرمان من مُتَع الدنيا.. والصبر على الفقر والجوع والمرض.. فَحَوَّلنَا نعم الله إلى بلاء.. وحَوَّلَنا عطاياه إلى نقم!
كل ذلك جعلني أُوقِن أنه “حينما يفشل الإنسان في الحصول على فرصة للحياة، يبدأ في رحلة البحث عن فرصة للموت”! وأنه “حينما نختزل قوة الدين في التحريم وليس في التحليل؛ يصبح الإقبال على الموت سهلا !”.. وأن الإنسان يفكر في الموت؛ إذا ما فقد الحلم والأمل، وكلما كان المستقبل أمامه مجهولًا!”..
ويضطر الإنسان للانتحار حينما تختزل الحكومات سبل الحياة في فرصة واحدة، أو قناة واحدة؛ متى فُقِدّت أو سُدَت؛ يصبح الموت بديلًا ناجزًا للحياة.. فقد يصبح الموت “لطيفًا” حين يتجرع الإنسان قبله “كأسًا” من مرارة الحياة!.