قبل أيام قليلة من انتخاب البرلمان العراقي يوم السبت الماضي النائب محمد الحلبوسي مرشح كتلة “الفتح” التي يتزعمها هادي العامري زعيم “منظمة بدر” الموالي لإيران رئيساً للبرلمان، متقدماً على منافسه خالد العبيدي مرشح كتلة “النصر” التي يتزعمها حيدر العبادي رئيس الحكومة المدعوم من الولايات المتحدة بفارق كبير في الأصوات فاجأت نيكي هايلى رئيسة الوفد الأمريكي في الأمم المتحدة العالم، ومن منصة مجلس الأمن (11/9/2018) بإعلانها أن واشنطن “لن تسمح لإيران، من خلال واجهة (عملية أستانة)، بخطف مستقبل الشعب السوري”. وكشفت عن خلفيات هذا التهديد، وميدان المواجهة مع إيران في سوريا، وأفصحت عن عزم واشنطن منع تمكين إيران وحلفاءها من تحقيق انتصار في معركة إدلب التي فجرت الاستنفار الأمريكي المدعوم من الغرب لمنع حدوث هذه المعركة، أو اتخاذها، في حال حدوثها، تكئة لشن هجوم ثلاثي كبير (أمريكي- بريطاني- فرنسي) على سوريا يمنع الجيش السوري وحلفاءه من القضاء على آخر بؤرة إرهابية على الأراضي السورية في إدلب.
معركة انتخاب رئيس مجلس النواب العراقي التي حُسمت لصالح إيران تحمل مؤشرات قوية على قدرة حلفاء إيران في العراق على حسم معركة “الكتلة الانتخابية الأكبر” لصالحهم، ومن ثم سيكون في مقدورهم تسمية رئيس الحكومة الذي يريدونه وبعدها تشكيل الحكومة، وإنهاء المستقبل السياسي لشخص حيدر العبادي الذي عملت واشنطن كل ما في وسعها لفرضه رئيساً للحكومة الجديدة من خلال المبعوث الأمريكي للعراق بريت ماكفورك، الذي أثنى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو على جهوده تلك وقال “ماكفورك يقوم بعمل عظيم في العراق، وهو يمثلني ويمثل الرئيس”.
بلغة نيكي هايلي ومفرداتها نستطيع أن نقول أن “إيران نجحت في اختطاف العراق”، أو هي على الأقل في طريقها لاختطافه، فماذا عسى الولايات المتحدة أن ترد على ذلك في سوريا، لمنع إيران من اختطاف سوريا أيضاً، خاصة وأن نجاح مرشح كتلة “الفتح” الممثلة للحشد الشعبي الموالية والمدعومة من إيران جاء عبر تحالف مع كتلة الأصوات الكردية أي أن الكرد اختاروا الانحياز إلى “تحالف البناء” المدعوم من إيران بزعيميه هادي العامري (كتلة الفتح) ونوري المالكي (حزب الدعوة). وهذه رسالة أخرى إلى الولايات المتحدة ولرهاناتها على الكرد السوريين في المواجهة التي تعد لها ضد الجيش السوري وحلفاءه وهم بالتحديد: إيران وروسيا وحزب الله، ما يعني أن المخطط الذي تعده الولايات المتحدة للعودة عسكرياً وبقوة إلى سوريا سيواجه العديد من التعقيدات، لكن هذا المخطط نفسه بات يفرض الكثير من الإرباكات لمواقف كل الأطراف، والمحصلة هي غموض غير مسبوق لمستقبل حل الأزمة السورية.
فمن ناحية تكشف تصريحات نيكي هايلي الخاصة بعزم واشنطن على إفشال “عملية أستانة” بغرض منع إيران من “اختطاف مستقبل الشعب السوري”، على حد قولها، حقيقة الدور الذي لعبه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في إفشال القمة الثلاثية لقادة عملية أستانة التي عقدت في طهران (7/9/2018)، وهو ما يعني أن الرئيس التركي بدأ ينشط في الاتجاه الآخر الذي عادت واشنطن لتتزعمه في سوريا، تحت غطاء منع إيران من تحقيق انتصار في سوريا، وهو هدف يخدم مصالح رجب طيب أردوغان الذي تحالف مع إيران اضطرارياً بمشاركة روسية، لكنه لا يريد نفوذاً إيرانياً منافساً له في سوريا، خاصة في الشمال السوري، وهذا ما يجعله يتزعم التيار الداعي إلى منع وقوع “معركة إدلب”، أي منع تصفية آخر بؤرة إرهابية في سوريا، لأنه من يتزعم ويحمي ويدعم ما يسمى بالمعارضة المتمركزة الآن هناك، وبهم يطمح إلى فرض منطقة نفوذ تركية في شمال سوريا. ولذلك غادر أردوغان “تحالف أستانة”، عملياً، ليقاتل مجدداً من داخل المعسكر الأمريكي ومنظمات المعارضة الإرهابية منها وغير الإرهابية. ولكن من الناحية الأخرى تصطدم هذه الجهود الأمريكية والتركية مع المصالح والانتصارات الروسية في سوريا، ما يعني وجود احتمال مؤكد بدخول روسيا كطرف معاد لهذه الجهود، وما يعني أيضاً احتمال حدوث تراجع روسي عن تفاهمات روسية مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل بخصوص تحجيم الوجود العسكري الإيراني وإبعاده عن الحدود الجنوبية السورية مع إسرائيل، وإعطاء أضواء خضراء لإسرائيل لضرب مواقع إيرانية في سوريا. حدوث مثل هذا التراجع قد يرفع مستوى التنسيق الروسي مع إيران مجدداً إلى مستوى التحالف بكل ما يعنيه ذلك من دفاع روسي ليس فقط عن الوجود العسكري الإيراني في سوريا، بل ودعم إيران في نزاعها مع الولايات المتحدة حول ملفها النووي.
روسيا تتابع ما يحدث بدقة، وحرصت على توجيه انتقادات قوية لما اعتبرته تلويحاً أمريكياً بـ “رد قوي” على استخدام سوري محتمل للسلاح الكيماوي في معركة إدلب التي أخذت تحمل في الإعلام الغربي والموالي اسم “كارثة القرن”، واستبقت موسكو تلك التحديات بإعلان توافر معطيات لديها بشأن “بدء تنفيذ مسرحية كيماوية من جانب المسلحين في جسر الشغور (إدلب) للتمهيد للتدخل العسكري الأمريكي- الغربي واتهام الجيش السوري بأنه من استخدم تلك الأسلحة الكيماوية لتبرير هذا التدخل العسكري. نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ربابكوف اعتبر هذه الجهود وما ورد على لسان جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي من تهديدات بـ “توجيه ضربة أقوى إلى سوريا” بأنها “محاولة استعراض عضلات” و”تلاعب وقح بالحقائق” مشيراً إلى أن تصاعد اللهجة الأمريكية الأخيرة يهدف إلى “ابتزاز البلدان الضامنان للتسوية في سوريا وتحديداً روسيا وإيران”.
وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف كان سباقاً في كشف النوايا الأمريكية العدوانية الجديدة العدوانية ضد سوريا في مؤتمره الصحفي مع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في موسكو (29/8/2018) عندما قال أن التهديدات الأمريكية لسوريا “تستخدم لغرض وحيد وهو منع طرد الإرهابيين من إدلب” موضحاً أن واشنطن، كانت ولا زالت، تسعى إلى حماية “جبهة النصرة بغية الاستفادة منها في معركتها ضد دمشق”.
رياح التغيير بدأت تهب من العراق في صالح ايران, وانعكاساتها علي سوريا تحدث المزيد من ادراك الحسابات في صراع أكثر ضراوة لا تواجه فيها الولايات المتحدة ايران وحدها, بل تواجه روسيا أيضا, وربما العراق مستقبلا, ما يعني أن سوريا التي قررت الولايات المتحدة أن تعود اليها لافشال ما حققته روسيا من نجاحات وأن تخوض بنفسها معركة ابعاد ايران عن سوريا, ربما تصبح وزطة غير محسوبة العواقب لن تقيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كثيرا للخروج من ورطتهالأسوأ داخل الولايات المتحدة نفسها.