ربما بخبث سألني أحدهم : كيف يمكن أن نفهم قول سيدنا الإمام الشافعي رضي الله عنه في علماء الكلام : ( حُكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد والنِعال ، ويُطاف بهم في القبائل والعشائر ، ويُقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام ) ؟ فهل قول الشافعي في علماء الكلام ، هو حكم ديني أم مجرد رأيُ كلام ؟
فقلت : يمكننا في محاولة فهم كلام سيدنا الإمام الشافعي رضي الله عنه ، أن نعرض – على عقول تفكر ، وتُقنع أو تقتنع – العناصر الآتية :
أولا : صحّ نسبة ذلك الكلام للشافعي ، فقد أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي 1/462 ، والخطيب والبغدادي في شرف أصحاب الحديث رقم : 163، وابن عبد البر في الانتقاء في مناقب الأئمة الثلاثة الفقهاء ص 123-124 ، وأبو نعيم في حلية الأولياء 9/116 ، والبغوي في شرح السنة 1/218 ، وابن حجر في توالي التأسيس ص 111 ، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء 10/29 ، وعلي القاري في شرح الفقه الأكبر ص 2-3 ، والسيوطي في الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع ص 72، وفي صون المنطق والكلام ص 31 و65 ، وابن مفلح الحنبلي في الآداب الشرعية 1/225 ، وغيرهم ، وذكره بنصه كثير من الباحثين المحدثين والمعاصرين وبخاصة من السلفيين . إذن ، لا خلاف بين الباحثين – قدامى ومحدثين – على ثبوت هذا الكلام للشافعي . وإنما الاختلاف في نقل بعض المصادر لفظة ( النعال ) بعد لفظة الجريد ، أو الاكتفاء بلفظة الجريد فقط . ولم يحاول أحدهم – فيما أعلم – أن يناقش كلام الشافعي على معيار ( المنهج النقدي ) ، باعتبار أن كل قول يؤخذ منه ويرد إلا قول سيدنا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أو بحسب تعبير سيدنا الإمام مالك رضي الله عنه
ثانيا : يمكن أن يُفهم هذا الكلام للشافعي رضي الله عنه على أنه ( رأيٌ شخصي ) ، وليس ( حكما دينيا ) ، حيث كان تعبيره دقيقا بقوله ( حكمي ) ، وليس ( حكم الدين ) . ويرى البعض إنه يمكن أن يتم توقيع كلامه ( تنظيريا فقط ) على متكلمي المعتزلة الذين جعلوا ( العقل أصلا للأحكام ، والنقل تبعا له ) ، وهذا بخلاف متكلمي أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية ، وغــيرهم ، من الذين جعلوا النقل هو الأصل والعقل تابعا له . وكلام الإمام الشافعي في ذلك قد يفسر بعضه بعضا ، فهو يقول فيه : ( هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام ) . والحمد لله ليس في أهل السنة والجماعة من ترك الكتاب والسنة وأقبل على غيره . هذا رأيهم ، على الرغم من أن بعض المعتزلة نصروا القرآن بمؤلفات تدافع عنه ضد مطاعن الملحدين ، وكان لهم فضل كبير في دخول كثير من غير المسلمين في الإسلام . وقد يُعد قول الشافعي نوعا من غضب تعبير أتباع فن معين ( أي تخصص ما في العلوم الإسلامية ) على أتباع فن آخر كان له مريدوه المقتنعون به . فهو نوع من تعبير شخصي عن صراع بين الفقهاء والمتكلمين . وحكمه هذا يعد في الحقيقة ( كلاما ) غير ملزم لأحد في التدين ، لا في عصره ولا بعد وفاته رضي الله عنه . وقد يعد رفض هذا الكلام الذي قاله الشافعي ( تنظيرا وتفعيلا ) من ( بدهيات التدين ) في هذا العصر الذي يتسم بقبول الآخر ( المخالف للدين ) ، فما بالك بالآخر ( الموافق في مطلق التدين ) بنفس الدين
ثالثا : يغلب على ظني أن كلام الشافعي هذا لم يُطّبقه هو في حياته ، ولم يُلزم أحدا بتطبيقه بعد وفاته ، ولم يلتزم أحد من تلقاء نفسه بذلك . ولا يصح ولا يعقل أن يأتي مسلم في هذا العصر ويحاول تطبيق هذا الحكم / الرأي الشخصي للشافعي باعتباره ( حكما فقهيا ملزما في الاتباع المذهبي والتديني ) . وإلا صار ( دارسو ومدرسو علم الكلام ) في هذا العصر غرضا واقعيا لانتقامات ( المتطرفين ) والمتشددين بضربهم . وقد يكون ( رد الانتقامات ) على الضرب ( أشد وأخطر ) ، فيتعدى الضرب إلى ( القتل ) ؛ لأن من ( أُهينت كرامته ) قد لا يُبقي على شيء أصلا ، فضلا عن أن يتعامل بالمثل في مثل هكذا مواقف
رابعا : كان يحق لنا أن نسائل الشافعي لو كنا قد عاصرناه في حياته سؤالا مفاده ( ما دليلك يا إمامنا الجليل من القرآن والسنة على هذا الحكم الذي حكمت به على علماء مسلمين ، وخاصة أنه حكم ينطوي على إيذاء بدني وتشويه معنوي ؟! ) ، ولا نعرف كيف كان الشافعي سيجيب على هذا السؤال ، ولا أي دليل كان سيذكره في ذلك . ومثل هذا السؤال يجب أن نوجهه الآن أيضا إلى كل مؤيد لهذا الكلام للشافعي أو معجب به أو يحاول الانتقاص الذاتي والمعنوي ممن يعملون في دراسة أو تدريس علم الكلام . وهم لا يُعدّون في الحقيقة ( علماء كلام أو أهل كلام ) ، وإن وصل بعضهم في هذا العصر إلى هذه المرتبة ، فذلك شرف لهم ، من حيث أن غاية علم الكلام – في كل عصر – هي الدفاع عن الأصول والعقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ضد المخالفين والملحدين . وهي غاية شريفة ، صار علم الكلام بها أشرف العلوم الإسلامية