تاريخ العالم، وبالذات التاريخ العسكري، مفعم بالدروس المستخلصة من تجارب الحروب التى خاضتها البشرية وعانت ويلاتها. فى مقدمة هذه الدروس أن أخطر الحروب، ومن بينها الحربان العالميتان الأولى والثانية التى، راح ضحيتها عشرات الملايين من البشر، عادة ما تحدث نتيجة لأحداث صغيرة. لكن هذا لا يعنى أن هذه الأحداث الصغيرة هى القادرة على تفجير تلك الحروب الرهيبة بويلاتها، ولكن هناك أسبابا حقيقية قوية متراكمة ولكنها مكبوتة تنتظر لحظة الانفجار أو «أصغر الشرر» الكفيل بإشعالها. فهل يمكن أن تكون حادثة تحطيم طائرة الاستطلاع والرصد الروسية من طراز «إيليوشن 20» فجر الثلاثاء (18/9/2018) على مقربة من السواحل السورية قرب اللاذقية هو تلك الشرارة التى يمكن أن تفجر الحرب الكبري.
ما يحدث الآن، فى أجواء وتداعيات أزمة تحطيم الطائرة الروسية تلك بصاروخ سورى عن طريق الخطأ أثناء التصدى لعدوان قامت به أربع طائرات إسرائيلية مقاتلة من «طراز اف- 16» ضد موقع عسكرى سورى قرب اللاذقية، أى على مقربة من القاعدة العسكرية الروسية الكبرى فى سوريا «قاعدة حميميم»، يؤكد أن شرارة التفجير انطلقت بالفعل، وسبقها تراكم غليان مكبوت روسي- أمريكى فى سوريا، بعد التصدى الأمريكي- الغربى (البريطانى الفرنسى) لعزم روسيا وسوريا على تصفية «بؤرة الإرهاب» المتبقية شمال سوريا فى محافظة إدلب، حيث بدأت الأساطيل الغربية الأمريكية والبريطانية والفرنسية تتجه قبالة السواحل السورية محذرة من توجيه ضربات قوية وغير مسبوقة للجيش السورى «إذا هو استخدم أسلحة كيماوية وشن العدوان على إدلب». كانت «الأسلحة الكيماوية» هى «كلمة السر» المتفاهم عليها لشن عدوان كبير يكون من شأنه إرباك الحل الروسى للأزمة السورية.
روسيا هى الأخرى كانت قد استنفرت قواتها العسكرية قبيل تصعيد أزمة إدلب، وبدأت فى الفترة من 1- 8/9/2018 واحدة من أهم وأخطر مناوراتها الحربية التى أجرتها فى البحر المتوسط قبالة السواحل السورية بالنظر إلى حجم المنظومات الحربية المشاركة والتى شملت 26 سفينة حربية من أساطيل بحر الشمال وبحر البلطيق والبحر الأسود وبحر قزوين وغواصتين بقيادة الطراد «مارشال أوستينوف» التابع للأسطول الشمالي، وبمشاركة تشكيلات من القوات الفضائية الجوية ضمن 34 طائرة منها القاذفات الإستراتيجية «تو- 160» والطائرات المضادة للغواصات من طراز «تو 142 إم كا» و«إيل- 38» والمقاتلات «سو- 33» و»سو- 30 إم». الأجواء كانت معبأة ومحتقنة إذن على أعلى مستوى عندما وقع حادث الطائرة الروسية التى أدت إلى تصعيد روسى غير مسبوق ضد إسرائيل، خاصة بعد أن أثبت التحقيق الذى أجراه الجيش الروسى أن إسرائيل هى المسئولة عن جريمة إسقاط هذه الطائرة، لكن ما جرى فى الاجتماع الذى عقده قائد القوات الجوية الروسية مع الوفد العسكرى الذى أرسله بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية برئاسة قائد القوات الجوية الإسرائيلية لعرض نتائج التحقيق الإسرائيلى فى الحادث والذى ركز على تبرئة الطيارين الإسرائيليين أدى إلى انقلاب الموقف رأساً على عقب، فقد رفض قائد سلاح الجو الروسى المبررات التى قدمها قائد سلاح الجو الإسرائيلى حول الحادث، وخاطبه بحدة : «أنتم مسئولون عن مقتل الضحايا الـ 14 الروس، وكذلك الاعتذار نرفضه، والتعازى نرفضها، ومن الآن فصاعداً أى طائرة إسرائيلية تقترب من السواحل السورية سنسقطها فوراً». الرد المستفز لقائد سلاح الجو الإسرائيلى الذى قال فيه «نحن نملك سلاح جو قادرا على العمل فى كل المنطقة وكلامكم هذا تهديد لنا»، وصل إلى الرئيس بوتين الذى أصدر أوامره بإرسال 12 طائرة «سو- 35» للتحليق فوق إسرائيل ذهاباً وعودة متحدية أى قدرة إسرائيلية على الرد، وبعدها صدرت القرارات التى أعلنها وزير الدفاع سيرجى شويجو وتضمنت ثلاثة إجراءات لتعزيز القدرات الأمنية فى سوريا وحماية المنشآت الروسية ومنع أى هجوم عسكرى خارجى محتمل من جهة البحر. هذه الإجراءات هي: إطلاق تقنيات التشويش الكهرومغناطيسى فى مناطق البحر المتوسط المحاذية لسواحل سوريا، بهدف منع عمل رادارات واتصالات الأقمار الصناعية والطائرات أثناء أى هجوم مستقبلى على سوريا، وتزويد الجيش السورى بمنظومة صواريخ اس 300 (التى كانت موسكو قد جمدت بيعها لسوريا بضغوط إسرائيلية منذ عام 2013)، وتجهيز المراكز القيادية لقوات الدفاع الجوى السورية بنظام للتحكم والمراقبة معمول به لدى الجيش الروسى وحده. وبموازاة ذلك تم إرسال أحدث ما عند الجيش الروسى من أسلحة متطورة جوية وبحرية فبدأت الغواصات النووية الروسية تنتشر فى البحر المتوسط، كما وصلت أكبر مدمرة وبارجة روسية وهى سفينة «ليننجراد» وعلى متنها 2500 صاروخ بحر- جو لا يمكن التشويش عليها لأنها تعمل بتوجيه الأقمار الصناعية، كما تم وضع 12 منظومة دفاع صواريخ من طراز «إس 600» بقاعدة حميميم، ما يعنى استحالة اقتراب أى طائرة لمسافة 500 كم، كما أرسلت أسرابا من طائرات «سو 57» و«سو 35» محملة بصواريخ «كينيتال» التى يصل مداها 2000 كم. حدث كل هذا مع صدور قرارات شديدة الحسم لم يعلن عنها عقب اجتماع طارئ لمجلس الأمن القومى الروسى برئاسة الرئيس بوتين، وتم إمهال إسرائيل أسبوعاً واحداً للرد على الطلب الروسي: محاكمة ومعاقبة ضباط الطائرات الإسرائيلية الأربع «إف 16» وقائد السرب الذى أطلق هذه الطائرات. إسرائيل رفضت الطلب الروسى واستنجدت بالولايات المتحدة للتدخل، ودعت بريطانيا إلى جلسة طارئة لمجلس الأمن رفضت روسيا انعقادها، وجاء الرد حاسماً من نائب رئيس مجلس النواب الروسى ليقول «إن أى شرارة قد تتسبب بها إسرائيل ستعنى أن إسرائيل قد قررت مواجهة الدولة العظمى الأولى فى العالم، وإذا كانت إسرائيل تعتقد أن أمريكا هى الدولة الأولى فى العالم فإننا نبلغها أن جمهورية روسيا الاتحادية هى الدولة الأقوى فى العالم وهى الأولي». من سيتراجع ومن سيتوسط؟ أم أن المحظور يمكن أن يحدث؟.
أسئلة مهمة لم تجد إجابة بعد ليصبح هذا الأسبوع هو الأطول فى تاريخ الشرق الأوسط، وربما الأخطر أيضاً.