خلال زيارتي الأخيرة لمحافظة أسوان, كنت أقوم بجولة لتفقد معالم تلك المدينة العريقة التي ستظل شاهدة علي تاريخ وحضارة الأجداد’ بما تحويه من أثار ومعابد, باتت مقصدا لكل الباحثين عن أسرار تلك الحضارة حول العالم, ليقف الجميع أمامها عاجزا عن التحليل والتفسير, فأسوان أقدم المدن المصرية علي الاطلاق وبوابة مصر الجنوبية, أقيمت علي أرضها أول مدرسة مصرية في عهد محمد علي, وينبض في قلبها شريان مصر الخالد “نهر النيل”, ناهيك عن تلك الوجوه السمراء التي تقابلك بابتسامة الود والكرم, فنجد قلوبا بيضاء فطرية لم تلوثها أمراض الحداثة.
ومع سعادتي بعودة الروح لهذه المدينة السياحية, وهذه الأفواج التي بدأت مؤخرا تتجول في شوارعها بعد غياب دام لسنوات, ساقتني الأقدار لأصلي المغرب بأحد المساجد وسط المدينة, وبعد أداء الصلاة لفت انتبهاي عدد من الشاشاات المنتشرة في أنحاء المسجد, ولأن الأمر غير معتاد اقتربت من أحد الشباب وسألته عن تلك الظاهرة الغريبة علي المساجد, فأخبرني أن امام المسجد يستخدمها في شرح دروسه وخطبه, وهنا راوضني ذلك الفضول الانساني فقررت أن أصلي الجمعة في هذا المسجد لأري بنفسي هذه التجربة الفريدة, وحينما دخلت المسجد لأداء صلاة الجمعة لفت نظري صورة مثبتة علي الشاشات لشخص يضع يده علي أنفه ورأيت جموع المصلين يتفحصون تلك الصورة وكأنهم يتسألون عن ماهية وضعها, الي أن صعد الشيخ سعودي محمد مرزوق, امام وخطيب المسجد, علي المنبر لالقاء خطبته, حيث بدا من خلال جهاز الكمبيوتر “اللاب توب” المتصل بتلك الشاشات التحكم في الصور المعروضة استعدادا للخطبة التي كان موضوعها عن “الاشمئزاز” وبدأ الشيخ بشرح ماهية الاشمئزاز وأنواعه وتأثيره بشكل علمي بحت, مستغلا هذه المقدمة بمهارة وذكاء للدخول الي الجانب الديني, وكان يشرح كل عنصر من عناصر خطبته من خلال استخدام الـ”برزنتيشن” التي أعدها ليعرضها علي الشاشات المنتشرة بالمسجد والمتضمنة لبعض الصور التي تؤكد المعني وتعززه.
وحينما انتهي الشيخ من الخطبة, وبعد ما رصدته من ردود فعل المصلين خاصة الشباب والاطفال الذين حرصوا علي الصلاة بجانب الامام, أدركت أنني أمام تجربة فريدة وبديعة واعتبرتها تجسيد حقيقي وواقعي لمفهوم “تجديد الخطاب الديني” فاستغلال التكنولوجيا الحديثة وجعلها أداة من أدوات الفهم والتوصيل, من المؤكد أنه أمر يجب الوقوف أمامه وتقييمه ودعم انتشاره, فالخطاب الديني لا يحتاج لتجديد مضمونه بقدر ما يحتاج لتجديد ألياته وأدواته, وعلي مؤسساتنا الدينية المبادرة بذلك حتي لا تترك المجال للمغرضين والمدعين الذين يطلقون دعوات التجديد وهم لا يهدفون الا التدمير.
وقد ازدادت قناعتي بالتجربة بعد حوار شيق دار بيني وبين الشيخ سعودي, امام وخطيب مسجد منصور حمادة, أقدم وأعرق مساجة أسوان, حيث أكد لي أنه بدأ في هذا العمل منذ سنوات, ووجد أثره جليا من خلال دروسه وخطبه وحلقات تحفيظ القرءان التي ينظمها المسجد, للشباب والسيدات والأطفال, بالتعاون مع جامعة أسوان وعدد من المهتمين بأمور الدعوة بمحافظة أسوان..