قد يكون أسبوع التوتر الروسي- الإسرائيلي قد مر دون أن تقع أحداث ساخنة بين روسيا وإسرائيل لكن الحقيقة تؤكد أن نيران الأزمة مازالت ملتهبة تحت رمادها الذي لم يهدأ بعد. هذه النيران يبدو أنها توظف لإنضاج خرائط تحالفات جديدة أكثر صلابة بدرجة تفوق ما سبقها من تحالفات سواء كانت على مسار التحالف الروسي- الإيراني الذي ظل طيلة السنوات الثلاث الماضية من عمر الأزمة السورية تحالفاً هشاً ومشكوكاً في صلابته نظراً لعدم تطابق المصالح والأهداف الروسية في سوريا مع نظيرتها الإيرانية، أو على مسار التحالف الأمريكي مع أطراف عربية كان التردد هو أبرز سماته، ربما لشبح إسرائيل الذي يستتر من ورائه.
إسرائيل رفضت الاستجابة للطلب الروسي بمحاكمة ومعاقبة ضباط الطائرات الإسرائيلية الأربع (اف 16) الذين اتهمتهم موسكو بالتسبب في إسقاط طائرتها (ايليوشن – 20) قبالة اللاذقية فجر الثلاثاء (18/9/2018) ومعهم قائد السرب الذي أطلق هذه الطائرات، وبدلاً من استرضاء روسيا وجدت إسرائيل نفسها عاجزة عن إخفاء ضجرها من القرارات الروسية غير المسبوقة التي جاءت كرد فعل على تردد إسرائيل في الاستجابة للطلب الروسي، وهي القرارات التي لم تعكس فقط تعمداً روسياً على معاقبة تل أبيب بل تؤكد أيضاً توجهاً روسياً بتقليص إمكانات شن إسرائيل، أو أي أطراف أخرى، هجمات جوية على الأراضي السورية مستقبلاً. فقد تضمنت هذه القرارات إطلاق تقنيات التشويش الكهرومغناطيسي في مناطق البحر المتوسط المحاذية لسواحل سوريا لمنع عمل الرادارات واتصالات الأقمار الصناعية والطائرات المعادية عند أي هجوم على سوريا، كما تضمنت تزويد سوريا بمنظومة صواريخ “اس 300” للدفاع الجوي التي كانت روسيا قد جمدتها منذ عام 2015 استجابة لضغوط إسرائيلية، وربما أمريكية، وهي الصواريخ التي بإمكانها إصابة الطائرات الإسرائيلية في الأجواء الإسرائيلية وقبل أن تدخل الأجواء السورية، إضافة إلى تجهيز المراكز القيادية لقوات الدفاع الجوي السورية بنظام للتحكم والمراقبة المعمول به فقط لدى الجيش الروسي، فضلاً عن إرسال موسكو منظومات من أسلحتها المتطورة إلى قاعدتها العسكرية في سوريا سواء من الطائرات أو الصواريخ أو حتى الغواصات النووية.
أرادت إسرائيل أن تظهر، ولو شكلياً ومعنوياً، قدرتها على تحدي النتائج التي قد تترتب على هذه القرارات ميدانياً، وأن تظهر جدية ما كان قد ورد على لسان قائد سلاح الجو الإسرائيلي في لقائه مع نظيره الروسي في موسكو بعد أيام من سقوط الطائرة الروسية في رده على تهديدات القائد الروسي للانتقام لسقوط الطائرة. كان قائد سلاح الجو الإسرائيلي قد قال: “نحن نملك سلاح جو قادر على العمل في كل المنطقة، وكلامكم هذا تهديد لنا” الأمر الذي دفع القائد الروسي ليرد وبسرعة: “الليلة سأرسل 12 طائرة من طراز سوخوي 35 S فوق الساحل الإسرائيلي، ولن انتظر التحقيق، أو موافقتكم على التحقيق، وطالما أنكم تملكون سلاح جو يعمل في المنطقة فما عليكم إلا التصدي لـ 12 طائرة سوخوي- 35 S، ولنرى ما سيجري”. ويبدو أن قادة إسرائيل قد نسوا أن هذه الطائرات الروسية قامت بمهمتها كاملة من سوريا واجتاحت الأجواء الإسرائيلية من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال دون أي قدرة إسرائيلية على الاعتراض، ومن هنا جاءت محاولتهم لإظهار القدرة على التحدي، الذي جاء هذه المرة على لسان وزير الدفاع أفيجدور ليبرمان.
ففي مساء الأحد (30/9/2018) ظهر أفيجدور ليبرمان وزير الحرب الإسرائيلي على شاشة تليفزيون “سي.بي.سي” الأمريكي في برنامج يحمل اسم “50 دقيقة من الحوار الساخن” ليعلن أن الطيران الإسرائيلي سيستمر في قصف الأراضي السورية، مهما كان موقف روسيا، وأن الطائرات الإسرائيلية ستقوم بإسقاط الطائرات الروسية إذا تصدت لها، وقال: “أن أي محاولة من الطائرات الروسية للتصدي للطائرات الإسرائيلية سيؤدي إلى قيام سرب وسربين وأكثر بإسقاط الطائرات الروسية”، وزاد أنه “إذا كان لدى روسيا قاعدة جوية في الساحل السوري وفيها ثمانين طائرة، فإن لدى سلاح الجو الإسرائيلي 63 قاعدة جوية في إسرائيل، ولديها ألف طائرة وأكثر، من أفضل طائرات العالم، كما أن الطيارين الإسرائيليين يتفوقون على الطيارين في سوريا وفرنسا وبريطانيا وروسيا من خلال مناورات جرت، وأظهر الطيارون الإسرائيليون أنهم أمهر قادة طائرات ويسيطرون على طائرات العدو ويسقطونها”، وأنهى مداخلته بالقول: “إن سلاح الجو الإسرائيلي وأسلحته الحديثة وأمهر الطيارين هم الذين يسيطرون على الأجواء، وليس الطيارين الروس، الذين ليست لديهم خبرة قتالية إلا قصف مواقع التكفيريين في سوريا، وليس لديهم خبرة مثل الطيارين الحربيين الإسرائيليين”.
جاء الرد الروسي بعد ساعة واحدة على التليفزيون الروسي مع نشرة الأخبار المسائية عبر مشاركة وزير الدفاع الروسي نفسه ومعه قائد القوات الجوية الروسية وقائد سلاح الصواريخ الروسية، وجاء الرد موجزاً وحاسماً في زمن لم يتجاوز 12 دقيقة، أكدوا فيه أن طياريهم هم الأكفأ في العالم وأن طائراتهم وصواريخهم الباليستية، وغواصاتهم النووية المرابطة قبالة السواحل الإسرائيلية قادرة “ومستعدة لتدمير إسرائيل خلال ثلاث ساعات فقط تدميراً كاملاً، وإذا تدخلت الولايات المتحدة فلتنشب حرباً نووية بينها وبيننا وليحصل ما يحصل”. وفق ما جاء على لسان قائد سلاح الجو الروسي.
تصعيد “ردعي” روسي غير مسبوق، لكنه يكشف نهاية باتت حتمية للتفاهمات الروسية- الإسرائيلية- الأمريكية في سوريا التي جرى التأكيد عليها عبر زيارات متكررة قام بها رئيس الحكومة الإسرائيلية لموسكو، وعبر القمة الروسية- الأمريكية الأخيرة في هلسنكي بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب (يوليو 2018) وتتضمن أمرين: “أمن إسرائيل وإخراج إيران من سوريا”. فقد أعطت هذه التفاهمات لإسرائيل ضوءاً أخضر لضرب مواقع لإيران و”حزب الله” داخل سوريا شرط الإبلاغ المسبق للروس لتفادي الاحتكاكات الجوية بين الطائرات الروسية والإسرائيلية.