هذه التي أدعوها ( الفتنة التبادلية ) ، تختلف عما هو معروف عن ( الفتنة المطلقة ) التي تؤدي إلى القتل ، أو هي أشد من القتل ، أو تؤدي إلى إضرار الناس ، وإحداث الوقيعة بينهم بنقل الكلام والنميمة بالغيبة والبهتان . وإن كانت هذه الفتنة التبادلية تؤدي إلى ( قتل معنوي ) لأحد أصول الإيمان في النفس المؤمنة ، وهو الإيمان بالقضاء والقدر ، لكن أحد مستلزمات النجاة من هذه الفتنة ، يُعد من أهم فضائل الأخلاق ، وهو الصبر لله على كل حال.
وقبل بيان هذا الكلام المجمل لدينا ، المبهم لديك نقول : إذا كان وجود كلمة ( فلسفة ) في عنوان هذه المقالة لا يريحك ، فضع مكانها كلمة ( حكمة ) وأرح نفسك . فما الفلسفة إلا محبة حكمة أحببت أن تعلنها للناس فأعلنتها ، فصار حبك لها وإعلانها لا ينفصل عنها ، فأجملت الحكمة ومحبتها في كلمة فلسفة.
إن هذه الفتنة التبادلية قد نصت عليها آية قرآنية هي قوله تعالى : ﴿ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡض فِتۡنَةً ، أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِیرا ﴾ سورة الفرقان : من الآية ٢٠ . صحيح أن الآية لم تشتمل على كلمة تبادلية واحتوت على كلمة فتنة ، لكن ( الجعل الإلهي ) المخاطبين فتنة لبعضهم البعض ، يجعلنا نصفها بأنها فتنة تبادلية ، فالبعض من الناس بل المؤمنين أيضا يكون في حال ما فتنة للبعض الآخر ، وهذا البعض الآخـر يكون في حال آخر فتنة للبعض الذي كان فتنة سابقا . فما معنى هذه الفتنة في الآية ؟! وكيف نفهمها بشكل صحيح ؟!
أولا : يجب علينا أن نسترشد في سبيل هذا الفهم ببعض ما أورده علماؤنا السابقون وقالوه في بعض مصادر تفسير القرآن الكريم مثل :
1 – ورد في تفسير الطبري : قوله تعالى : ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ ، يقول تعالى ذكره : وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض ، جعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة ، وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيراً وحرمناه الدنيا ؛ لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغني ّ، والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة ، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أُعطى ، وقسم له ، وطاعته ربه مع ما حرم مما أعطى غيره.
ويقول الطبري : وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل ، وممن قال بذلك :
* عن الحسن ، في قوله : ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾ الآية ، يقول هذا الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان ، ويقول هذا الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان ، ويقول هذا السقيم : لوشاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان.
* عن ابن جُرَيج في قوله : ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ قال: يمسك عن هذا ، ويوسع على هذا ، فيقول : لم يعطني مثل ما أعطى فلانا ، ويبتلى بالوجع كذلك ، فيقول : لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء ، ليعلم من يصبر ممن يجزع .
* عن ابن عباس قال : وأنزل عليه في ذلك : ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ : أي جعلت بعضكم لبعض بلاء ؛ لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا . ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي ، فلا يخــالفون ، لفعلت . ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم ))
2 – ورد في تفسير القرطبي (( ﴿ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾ أَيْ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ بلاءٍ وَامْتِحَانٍ، فَأَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الْعَبِيدِ فِتْنَةً لِبَعْضٍ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَالصَّحِيحُ فِتْنَةٌ لِلْمَرِيضِ، وَالْغَنِيُّ فِتْنَةٌ لِلْفَقِيرِ، وَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ فِتْنَةٌ لِلْغَنِيِّ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُخْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ، فَالْغَنِيُّ مُمْتَحَنٌ بِالْفَقِيرِ، عَلَيْهِ أَنْ يُوَاسِيَهُ وَلا يَسْخَرَ مِنْهُ. وَالْفَقِيرُ مُمْتَحَنٌ بِالْغَنِيِّ، عَلَيْهِ أَلا يَحْسُدَهُ. وَلا يَأْخُذَ مِنْهُ إِلا مَا أَعْطَاهُ، وَأَنْ يَصْبِرَ كُلُّ واحد منها عَلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ فِي مَعْنَى “أَتَصْبِرُونَ”: أَيْ عَلَى الْحَقِّ. وَأَصْحَابُ الْبَلايَا يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ نُعَافَ؟ وَالأعْمَى يَقُولُ: لِمَ لَمْ أُجْعَلْ كَالْبَصِيرِ؟ وَهَكَذَا صَاحِبُ كُلِّ آفَةٍ. وَالرَّسُولُ الْمَخْصُوصُ بِكَرَامَةِ النُّبُوَّةِ فِتْنَةٌ لِأَشْرَافِ النَّاسِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي عَصْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَحُكَّامُ الْعَدْلِ. أَلا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: “لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. فَالْفِتْنَةُ أن يحسد المبتلى المعافى . والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عَنِ الْبَطَرِ، وَذَاكَ عَنِ الضَّجَرِ ))
3 – ورد في الكشاف للزمخشري : (( فِتْنَةً أي محنة وابتلاء. وهذا تصبير لرسول الله ﷺ على ما قالوه واستبدعوه، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل ، يقول : وجرت عادتى وموجب حكمتى على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. والمعنى: أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم العداوة، وأقاويلهم الخارجة عن حدّ الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل . ))
ثانيا : في رأيي أن كلمة ( جعلنا ) لو فُُهمت بشكل مقنع صحيح لاتضح المعنى الحقيقي من كلمة ( فتنة ) . فالجَعلُ الإلهي لهذه الفتنة المصاحبة للمنحة والمحنة في نفوس البشر ليس جعلا ( فطريا أو حتميا ) ، وإنما هـو جعلٌ ( حـادث مؤقت ) ، بمعنى أنه جعلٌ يخضع لسيطرة الإنسان المؤمن عليه ، وذلك بالصبر على قضاء الله وقدره في واقع الأمر .
وهذا الخضوع للقضاء وتلك السيطرة على النفس ، إنما هو حال ( عقدي إيماني ) صرف ، لا يتمكن فيه إلا من فهم حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر وتمكنا في قلبه بشكل سليم . وليس أصعب على النفس في باب القضاء والقدر من المقارنة بالآخرين في النعم والعطاء ، حيث تمتلئ النفس بسؤال خطير ثم تسأل : لماذا فلان ولست أنا ؟! وبصيغة أخرى : لماذا فلان غني وأنا فقير ، لماذا فلان قوي وأنا ضعيف … وهكذا . فيصير مجرد وجود فلان هذا في حد ذاته وحدود معرفة السائل به ، فتنة للسائل . وقد لا يكون لهذا الفلان علم بهذه الفتنة التي وقعت لمن افتُتن بحاله ، فحسده من حيث تمنى أن يكون مثله أو تزول النعمة عنه . ولو تمكن الإيمان بالقضاء والقدر حقا في نفس المفتون ، لصبر على حاله وطلب من الله إصلاح حاله ومآله
وأعجب ما يكون من حال الإنسان الواقعي المعاصر في فتنة المنحة أنه لا يدرك أنها شعور ذاتي قد يكون قاصرا على نفس المفتون فقط ، وقد يتعجب منه المفتتن به ، وكأنه يريد أن يقول له : أهذه النعمة التي فتنتك بها دون أن أدري ، وقد دريت الآن ، فخذها وأرحني منها . فكم من غني صاحب نعمة يراها محروم منها بعين الظاهر أنها أفضل النعم ، ولكن يراها صاحبها بعين الباطن المعاين محنة ونقمة . ولو صبر عليها وفق حالها ، وصرفها بحسب مطلوبها ، لرزقه الله خيرها وجنبه شرها . لكنه سيظل مفتتن به من غيره ، بسبب وجود هذه النعمة عنده
وما عدا ما يكون موضوع الافتتان به محمود في أصله كالرسالة الإلهية للرسل عليهم السلام ، فإن الفتنة المجعولة إلهيا في نفوس الناس هي ( فتنة تبادلية ) ، فموضوع أو شخص الفتنة لغيره ، ما يلبث أن يصير مفتونا بغيره في غير موضوعه . وهكذا يصير الناس في كل حال فريقين متبادلين : مفتون بنعمة ، ومفتتن به منعّم . هذا على حال الظاهر ، لكن لو تعمق الإنسان في حال باطن كل نعمة مفتون بها لربما سخر من نفسه لأنه تمناها من قبل . وقد يكون لدى الفقير مثلا ما يجعل الغني يفتتن بحاله رغم فقره . وسبحان مَن القضاء قضاؤه والقدر قدره ، وليس للعبد الحق ، إلا الإيمان الحق بذلك الاختلاف في النعمة ، لأنه فعل الحق سبحانه
وقبل بيان هذا الكلام المجمل لدينا ، المبهم لديك نقول : إذا كان وجود كلمة ( فلسفة ) في عنوان هذه المقالة لا يريحك ، فضع مكانها كلمة ( حكمة ) وأرح نفسك . فما الفلسفة إلا محبة حكمة أحببت أن تعلنها للناس فأعلنتها ، فصار حبك لها وإعلانها لا ينفصل عنها ، فأجملت الحكمة ومحبتها في كلمة فلسفة.
إن هذه الفتنة التبادلية قد نصت عليها آية قرآنية هي قوله تعالى : ﴿ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡض فِتۡنَةً ، أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِیرا ﴾ سورة الفرقان : من الآية ٢٠ . صحيح أن الآية لم تشتمل على كلمة تبادلية واحتوت على كلمة فتنة ، لكن ( الجعل الإلهي ) المخاطبين فتنة لبعضهم البعض ، يجعلنا نصفها بأنها فتنة تبادلية ، فالبعض من الناس بل المؤمنين أيضا يكون في حال ما فتنة للبعض الآخر ، وهذا البعض الآخـر يكون في حال آخر فتنة للبعض الذي كان فتنة سابقا . فما معنى هذه الفتنة في الآية ؟! وكيف نفهمها بشكل صحيح ؟!
أولا : يجب علينا أن نسترشد في سبيل هذا الفهم ببعض ما أورده علماؤنا السابقون وقالوه في بعض مصادر تفسير القرآن الكريم مثل :
1 – ورد في تفسير الطبري : قوله تعالى : ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ ، يقول تعالى ذكره : وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض ، جعلنا هذا نبيا وخصصناه بالرسالة ، وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيراً وحرمناه الدنيا ؛ لنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغني ّ، والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة ، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أُعطى ، وقسم له ، وطاعته ربه مع ما حرم مما أعطى غيره.
ويقول الطبري : وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل ، وممن قال بذلك :
* عن الحسن ، في قوله : ﴿ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ﴾ الآية ، يقول هذا الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان ، ويقول هذا الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان ، ويقول هذا السقيم : لوشاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان.
* عن ابن جُرَيج في قوله : ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ قال: يمسك عن هذا ، ويوسع على هذا ، فيقول : لم يعطني مثل ما أعطى فلانا ، ويبتلى بالوجع كذلك ، فيقول : لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء ، ليعلم من يصبر ممن يجزع .
* عن ابن عباس قال : وأنزل عليه في ذلك : ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ : أي جعلت بعضكم لبعض بلاء ؛ لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا . ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي ، فلا يخــالفون ، لفعلت . ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم ))
2 – ورد في تفسير القرطبي (( ﴿ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ﴾ أَيْ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ بلاءٍ وَامْتِحَانٍ، فَأَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ الْعَبِيدِ فِتْنَةً لِبَعْضٍ عَلَى الْعُمُومِ فِي جَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، فَالصَّحِيحُ فِتْنَةٌ لِلْمَرِيضِ، وَالْغَنِيُّ فِتْنَةٌ لِلْفَقِيرِ، وَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ فِتْنَةٌ لِلْغَنِيِّ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُخْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ، فَالْغَنِيُّ مُمْتَحَنٌ بِالْفَقِيرِ، عَلَيْهِ أَنْ يُوَاسِيَهُ وَلا يَسْخَرَ مِنْهُ. وَالْفَقِيرُ مُمْتَحَنٌ بِالْغَنِيِّ، عَلَيْهِ أَلا يَحْسُدَهُ. وَلا يَأْخُذَ مِنْهُ إِلا مَا أَعْطَاهُ، وَأَنْ يَصْبِرَ كُلُّ واحد منها عَلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ الضَّحَّاكُ فِي مَعْنَى “أَتَصْبِرُونَ”: أَيْ عَلَى الْحَقِّ. وَأَصْحَابُ الْبَلايَا يَقُولُونَ: لِمَ لَمْ نُعَافَ؟ وَالأعْمَى يَقُولُ: لِمَ لَمْ أُجْعَلْ كَالْبَصِيرِ؟ وَهَكَذَا صَاحِبُ كُلِّ آفَةٍ. وَالرَّسُولُ الْمَخْصُوصُ بِكَرَامَةِ النُّبُوَّةِ فِتْنَةٌ لِأَشْرَافِ النَّاسِ مِنَ الْكُفَّارِ فِي عَصْرِهِ. وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَحُكَّامُ الْعَدْلِ. أَلا تَرَى إِلَى قَوْلِهِمْ: “لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. فَالْفِتْنَةُ أن يحسد المبتلى المعافى . والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عَنِ الْبَطَرِ، وَذَاكَ عَنِ الضَّجَرِ ))
3 – ورد في الكشاف للزمخشري : (( فِتْنَةً أي محنة وابتلاء. وهذا تصبير لرسول الله ﷺ على ما قالوه واستبدعوه، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل ، يقول : وجرت عادتى وموجب حكمتى على ابتلاء بعضكم أيها الناس ببعض. والمعنى: أنه ابتلى المرسلين بالمرسل إليهم، وبمناصبتهم لهم العداوة، وأقاويلهم الخارجة عن حدّ الإنصاف، وأنواع أذاهم، وطلب منهم الصبر الجميل . ))
ثانيا : في رأيي أن كلمة ( جعلنا ) لو فُُهمت بشكل مقنع صحيح لاتضح المعنى الحقيقي من كلمة ( فتنة ) . فالجَعلُ الإلهي لهذه الفتنة المصاحبة للمنحة والمحنة في نفوس البشر ليس جعلا ( فطريا أو حتميا ) ، وإنما هـو جعلٌ ( حـادث مؤقت ) ، بمعنى أنه جعلٌ يخضع لسيطرة الإنسان المؤمن عليه ، وذلك بالصبر على قضاء الله وقدره في واقع الأمر .
وهذا الخضوع للقضاء وتلك السيطرة على النفس ، إنما هو حال ( عقدي إيماني ) صرف ، لا يتمكن فيه إلا من فهم حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر وتمكنا في قلبه بشكل سليم . وليس أصعب على النفس في باب القضاء والقدر من المقارنة بالآخرين في النعم والعطاء ، حيث تمتلئ النفس بسؤال خطير ثم تسأل : لماذا فلان ولست أنا ؟! وبصيغة أخرى : لماذا فلان غني وأنا فقير ، لماذا فلان قوي وأنا ضعيف … وهكذا . فيصير مجرد وجود فلان هذا في حد ذاته وحدود معرفة السائل به ، فتنة للسائل . وقد لا يكون لهذا الفلان علم بهذه الفتنة التي وقعت لمن افتُتن بحاله ، فحسده من حيث تمنى أن يكون مثله أو تزول النعمة عنه . ولو تمكن الإيمان بالقضاء والقدر حقا في نفس المفتون ، لصبر على حاله وطلب من الله إصلاح حاله ومآله
وأعجب ما يكون من حال الإنسان الواقعي المعاصر في فتنة المنحة أنه لا يدرك أنها شعور ذاتي قد يكون قاصرا على نفس المفتون فقط ، وقد يتعجب منه المفتتن به ، وكأنه يريد أن يقول له : أهذه النعمة التي فتنتك بها دون أن أدري ، وقد دريت الآن ، فخذها وأرحني منها . فكم من غني صاحب نعمة يراها محروم منها بعين الظاهر أنها أفضل النعم ، ولكن يراها صاحبها بعين الباطن المعاين محنة ونقمة . ولو صبر عليها وفق حالها ، وصرفها بحسب مطلوبها ، لرزقه الله خيرها وجنبه شرها . لكنه سيظل مفتتن به من غيره ، بسبب وجود هذه النعمة عنده
وما عدا ما يكون موضوع الافتتان به محمود في أصله كالرسالة الإلهية للرسل عليهم السلام ، فإن الفتنة المجعولة إلهيا في نفوس الناس هي ( فتنة تبادلية ) ، فموضوع أو شخص الفتنة لغيره ، ما يلبث أن يصير مفتونا بغيره في غير موضوعه . وهكذا يصير الناس في كل حال فريقين متبادلين : مفتون بنعمة ، ومفتتن به منعّم . هذا على حال الظاهر ، لكن لو تعمق الإنسان في حال باطن كل نعمة مفتون بها لربما سخر من نفسه لأنه تمناها من قبل . وقد يكون لدى الفقير مثلا ما يجعل الغني يفتتن بحاله رغم فقره . وسبحان مَن القضاء قضاؤه والقدر قدره ، وليس للعبد الحق ، إلا الإيمان الحق بذلك الاختلاف في النعمة ، لأنه فعل الحق سبحانه