نجح المصريون في مواجهة شبح ما يسمى «الفتنة الطائفية»، بقدرتهم على الالتئام الوطني. وأتصور أن قيام المسؤولين في مصر، وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسي، بافتتاح أكبر مسجد وكنيسة في العاصمة الجديدة شرق القاهرة، هو أمر له دلالة خاصة، تتخطى مشاركة المسلمين للمسيحيين في الاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح عليه السلام، إلى إدراك حقيقة حاول البعض طمسها، واستبدالها بمفهوم غريب على أدبيات الفكر السياسي المصري، سموه «الفتنة الطائفية». الحقيقة هي أن مصر من الناحية الواقعية، تعد أيقونة التناغم الطائفي من قبل أتباع ديانتين مختلفتين على أرضها، لكنهما متكاملتان في نفوس معتنقيهما بل وتصبان في معنى واحد هو «المواطنة»، بدليل أنه عندما تسير في شوارع القاهرة أو تجلس في مقهى في أي مدينة مصرية، فإنك لا تستطيع أن تفرق بين المسلم والمسيحي في الشكل أو السلوك، وتكتشف أن عادات وتقاليد وأخلاقيات المصري؛ سواء كان مسلماً أو مسيحياً تكاد تكون واحدة. إذن دعونا نسمي هذه الحقيقة «الوحدة الوطنية». إن محاولات زرع بذور الفتنة بين الطرفين جاءت بشكل مفتعل، عندما حاول البعض إدخال «السياسة» في العلاقة بين ديانتين قائمتين على معتقد إيماني واحد هو «التوحيد». ونرصد هذا الأمر من خلال رؤيتين تحققان مقاربة تساعدنا في فهم مقولة «إن الوحدة الوطنية قهرت الفتنة الطائفية»، إحداهما رؤية من منظور تاريخي والأخرى من منظور جغرافي. المنظور التاريخي يرى في تعانق الهلال والصليب تحولاً من مجرد شعار إلى قيمة راسخة لدى المصريين منذ أن اندلعت في الشارع المصري تظاهرات مناهضة للمحتل البريطاني، حيث وحدَّت الأمة إرادة تحث على المقاومة من أجل الاستقلال، ولم تكن ثورة 1919 – التي نحتفل هذا العام بمئويتها الأولى – إلا دليلاً تاريخياً على وحدة المصريين، وعندما قامت ثورة عام 52 حرص نظامها على النظر إلى الأديان السماوية على أنها قيم روحية ملهمة لتوحيد الصف ولم الشمل، وأن كل المواطنين سواء أمام القانون وتم الفصل تماماً في هذه الفترة بين الدين والصراع السياسي.
أما المنظور الجغرافي، فيعتبر مصر من الدلتا إلى الصعيد وحتى المناطق ذات الطابع القبلي مثل شبه جزيرة سيناء نموذجاً يعكس فكرة «الكل في واحد»، وهو ما خلص إليه جمال حمدان في كتابه «شخصية مصر»؛ حيث يؤكد أن الوحدة الوطنية في مصر، جاءت نتاج كونها مجتمعاً نهرياً يعتمد على الامتداد الطبيعي لنهر النيل من الجنوب إلى الشمال، ما استوجب وجود سلطة مركزية تدير عملية توزيع مياه الري التي تزيد في موسم الفيضان بفصل الصيف وتقل في فصل الشتاء مع انحسار سقوط الأمطار في منطقة منابع النيل وهضبة الحبشة. إن تفسير جمال حمدان للمجتمع النهري أكد انعكاس تطور الوضع التاريخي على حقائق الموضع الجغرافي لمصر، ما يعتبر مفتاحاً مهماً لفهم الشخصية المصرية التي تعظم من فكرة «الكل في واحد»! المشار إليها، ويعززها عدم وجود نعرة عرقية أو طائفية في طبيعة تكوين شخصية المواطن المصري وعليه فشلت كل محاولات التفرقة بين المصري المسلم والمصري المسيحي عبر التاريخ وحتى عندما أراد البعض وصف المسيحيين بأنهم أقباط مصر، أكد المسلمون أن «القبطية» ليست ديانة ولكنها حضارة يتنمي لها المسلم والمسيحي على غرار حضارات أخرى مثل الأمازيغية والفينيقية والآشورية، ومن هنا نصبح أمام قبطي مسلم وقبطي مسيحي، وكلاهما مواطن مصري شريك مجتمع واحد!
غير أن العبث بالعلاقة بين الشريكين، قد يؤدي إلى مشكلات خطيرة لهذا نعتقد أن تسييس الدين في مصر في السبيعنات، أدى إلى وجود بيئة حاضنة لنمو حركات وجماعات متطرفة، وكانت نقطة البداية «فتنة طائفية» مفتعلة نجمت عنها تداعيات من بينها أن الرئيس أنور السادات ذهب ضحية التطرف عندما اغتالته عام 81 يد الإرهاب الذي بلغ الأمر مداه في التسعينات مع ظهور تنظيمات إرهابية عمقت من حدة الخلافات السياسية لاسيما عندما ركب ما سميَّ «الإسلام السياسي» الموجه وظهرت فتاوى تحض على تكفير المجتمع حتى جاءت ثورة 25 كانون الثاني (يناير) عام 2011 وقدمت مصر هدية أو لقمة سائغة لتنظيم الإخوان!
وهنا حدث تغير نوعي، في نشاط التنظيمات الإرهابية ومنها «الإخوان»، الذين وصلوا إلى السلطة في مصر للمرة الأولى في تاريخهم الذي يعود إلى أكثر من 85 عاماً منذ زعيمهم الأول الشيخ حسن البنا، حيث زاد معدل العمليات الإرهابية من دون تفسير منطقي، وحكم الإخوان مصر عاماً واحداً فقط، نجحوا خلاله في إيقاظ الفتنة النائمة، وانتشر الإرهاب في سيناء وداخل مناطق عديدة شمال وجنوب مصر حتى أسقطهم الشعب المصري في ثورة الـ 30 من حزيران (يونيو) عام 2013، وخلال السنوات الخمس الأخيرة عادت الأمور إلى طبيعتها وانطفأت نيران الفتنة، وتوحدت الأمة من جديد، واستردت الشخصية المصرية إلى حد كبير عناصر قوتها، وأثبت المصريون أن محاولات نسف الوحدة الوطنية، ليست سوى «زَبد البحرْ «الذي يذهب جُفاء»!